السنة التاسعة / العدد الرابع والعشرون / كانون أول  2013م / صفر  1435هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال = صبر علي (عليه السلام) يوم الدار (3)

 ولنعد إلى ما نحن فيه من صور الصبر المكّي والأمر به.

في ما جرى على عمار:

لقد تعرّض عمار لفنون من التعذيب بالحر تارة وبوضع الصخر على صدره وبالتغريق أخرى، وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدًا وتقول في اللات والعزى خيرًا. ففعل، فأتى إلى النبي (صلى لله عليه وآله) يبكي فقال له (صلى لله عليه وآله): ما وراءك؟

 قال: شرٌّ يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا.

 قال: فكيف تجد قلبك؟

 قال: أجده مطمئنًا بالإيمان، فقال: (يا عمار، إنْ عادوا فعُد). فأنزل الله تعالى {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}([30]).

لقد تبيَّن مما تقدَّم أنَّ هذه الممارسات الوحشيّة كانت تُرتكَب بمسمعٍ وبمشهدٍ من النبي (صلى لله عليه وآله) وكان يمرُّ بهم وينظر إليهم فما ذبَّ عنهم ولا انتضى صارمًا دونهم بل صبر واحتسب وأمرهم بالصبر والثبات والوعد بالثواب والنعيم المقيم، كما جاء في رواية خباب وما ورد من قوله (صلى لله عليه وآله) لآل ياسر وهم يتلوّونَ مِن وطأةِ ما يَلقَون: (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)([31]).

وقصارى ما قام به (صلى لله عليه وآله) من أجلهم في نهاية المطاف أن أمرهم بهجران ديارهم وترك موطنهم واللجوء إلى الحبشة ليكونوا في مأمن من عدوهم تحت جناح ملك لا يظلم بحضرته أحد.

ثم تبعهم في الهجرة حيث ترك مسقط رأسه ومربع صباه وشبابه ومنبت آبائه وفارق أول بيت لله مستترًا مستخفيًا إلى يثرب قرار يذكرنا بقرار الهجرة الجماعية من مصر إلى فلسطين الذي اتخذه نبي الله موسى -على نبينا وآله وعليه السلام- وقد تعرضنا له في الحلقة السابقة من مقالتنا هذه.

إنها سنَّة رسول الله (صلى لله عليه وآله) في المرحلة المكيّة، وهي المرحلة الكبرى من رسالته وقد استعرضنا عيِّنات منها فاتضحت لنا معالمها، ولم نرَ فيها منه إلا عظيم الصبر وطول الأناة وكظم الغيظ والحرص على سلميّة الدعوة.

فهل يُعَدُّ هذا منه وَهْنًا في عزيمة، أو تضعضعًا في شكيمة أو نقصانًا في غيرة أو استخفافًا بحياة السابقين المستضعفين ممن صدَّق به وآمن برسالته؟!!

أم أنه اتبع سبيل ربه واهتدى بهديه وجرى في سياسته؟!

 فإن قيل: إنَّه مأمور من قبل الله بذلك، فأخوه مؤتَمِر بأمره مقيَّد بوصيته.

 وإن قيل: إنَّه لم يجد ركنًا وثيقًا يأوي إليه وناصرًا يؤازره قلنا: إنَّ ما حلَّ بأخيه هو نظير ما حلَّ به.

وإنَّنا لا نرى أخاه عليًا أشجع منه، ولا أثبت جَنانًا، ولا أقوى بنيةً، ولا أمضى عزمًا، ولا أشد غَيرةً.

كيف؟! وقد وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (كُنّا إذا احمرَّ البأسُ اتَّقينا برسولِ الله (صلى لله عليه وآله) فَلَمْ يَكنْ مِنّا أقربُ إلى العدو منه)([32]).

وعنه (عليه السلام): (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا)([33]).

وفي حديث الصادق (عليه السلام): (كان أشجع الناس من لاذ برسول الله عليه وآله السلام)([34]).

وفيه المؤدى الوارد في الخبرين الماضيين؛ إذ شأن الشجاع أن يكون مقدامًا مما يجعله أقرب المقاتلين إلى الجيش المعادي وحيث كان رسول الله (صلى لله عليه وآله) هو الأقرب إلى الجيش المعادي عند محتدم النزال كان اللائذ به أشجع الناس.

 ولا نرى بأنَّ الله مسرعٌ لإجابةِ دعاءِ علي (عليه السلام) دون الإسراع لإجابة سيده وقدوته ومربّيه وولي نعمته رسول الله (صلى لله عليه وآله)، بل نرى أن كلَّ ما يتحلّى به أمير المؤمنين (عليه السلام) من الكمال إنما هو من رسول الله (صلى لله عليه وآله) الذي هو واسطة الفيض على الإطلاق.

فإذا ساغ لرسول الله (صلى لله عليه وآله) أن يكُفَّ عن القوم في مكة، ويَتحمَّلَ ما نزل به وبأصحابه من المحن والبلايا، حتى هُتِكَتْ حُرُماتُهم، وقُتِلَ منهم من قُتِلَ، أو كاد يُقتَل، وهو مع ذلك لا يَدفع ضيمًا عن نفسه وعنهم، ولو بالدعاء على أعدائهم بتعجيل النقمة، بل يواجه عتاة القوم وأجلافهم بالصبر الجميل فإنَّ لأمير المؤمنين(عليه السلام) برسول الله (صلى لله عليه وآله) أسوة حسنة، وما كان له أن يشذّ عن سنّة النبي قيد أنملة؛ فأفضل الناس عند الله منزلة وأقربهم من الله وسيلة أطوعهم لأمره، وأعملهم بطاعته، واتبعهم لسنّة رسوله (صلى لله عليه وآله)، ولسنا نقول بزيادة الفرع على الأصل.

وقد جاء في معتبرة البزنطي قوله (عليه السلام): (إنما أنا عبد من عبيد محمد (صلى لله عليه وآله))([35]).

المرحلة المدنية

هاجر رسول الله (صلى لله عليه وآله) من أمِّ القرى فهجر المجتمع الذي لم يرعوِ عن استخدام أية وسيلة من الوسائل في سبيل وَأْدِ دعوته في مهدها، جاء إلى يثرب مثخنًا بالجراح مِلء قلبه الألم والحسرة على قومه، جاء مؤملاً النهوض بمجتمع جديد يكون منطلقًا لحركته العالمية.

وفي زمن يسير أقام شواهد التغيير وقدم للعالم نموذجًا مبهرًا لحضارة شامخة، لو غض الطرف عن مكوناتها لكان أغرب ما فيها أن آتت أُكُلَها على أرض سبخة لا تألف الغراس.

وإن أردنا للوصف إيجازًا يظهر نسبة التغيير فليكن الكلام لسيدة النساء فاطمة الزهراء صلوات الله عليها حيث قالت في خطبتها الفدكية الغراء:

(..كُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ مَذْقَةَ الشَّارِبِ وَنَهْزَةَ الطَّامِعِ وَقَبْسَةَ الْعَجْلَانِ وَمَوْطِئَ الأَقْدَامِ تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ وَتَقْتَاتُونَ الْقِدَّ أَذِلَّةً خَاسِئِينَ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ فَأَنْقَذَكُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ (صلى لله عليه وآله))([36]).

لقد أطعمهم من جوع وأرواهم من ظمأ وآمنهم من خوف، فلو جاء رجل أمته بعشر معشار ما جاء به هذا العظيم لأمته لحملوه على أهداب الجفون ولفرشوا تحت أقدامه أحداق العيون عملاً بما تقتضيه فِطَر العقول وما جبلت عليه نفوس الآدميين من وجوب شكر المنعم بما يتلاءم مع إنعامه، فكيف بمن أتحفهم بما فيه النجاة في النشأتين وما يواكبهم إلى حيث لا نهائية السعادة بكل أبعادها.

لكنه -بأبي هو أمي- لم يجد في دار هجرته وعاصمته ومركز ثقله وعرين نهضته ما تندمل به جراحاته النازفة التي حملها معه من دار الشرك، ويا ليت المأساة توقفت عند هذا الحد.

لقد انفتحت عليه أبواب من الإيذاء هوَّنت عليه ما كان من سالف الجور.. والجرح يسكنه الذي هو آلم.

أفانين من الحرب النفسيّة والإعلاميّة التي لا هوادة فيها تهدف إلى إجهاض إنجازاته بل استثمارها في مشروع داخلي مضاد لها.

وما يزيد في خطورتها، ويضاعف من إيلامها أنها كانت تتخذ من أفواه من يُظهر الصحبة ويتبرقع بالنصرة مُنْبَعَثًا، وقد تَتَسَرْبَلُ بالإخلاص الزائف والحرص على الرسالة وصاحبها (صلى لله عليه وآله)، أتباعًا يلوكون اسمه بما ظاهره التعظيم في طقوسهم الدينية ثم يسقطون حرمته ويدمون فؤاده بذرائع متنوعة، بل جبهة اختراقيّة تتربص به الدوائر في كل خطوة يخطوها لِتُهَيّأ له ما يصهر خطوته في بَوتقة خطتها.

لقد مدّت هذه الجبهة خيوطها على جميع المواقع وبالغت في الاقتراب من شخصه لتمد نفوذها إلى حياته الشخصيّة تعمل على إقلاقه وتشويش ذهنه الشريف ومراقبة تحركاته وترصد تطلعاته.

إنّ النظر في المرحلة المدنيّة وما تحويه من محن ومصائب وإيذاءات صُبّت على شخص النبي (صلى لله عليه وآله) لا يحتاج إلى دقة كبيرة وقدرة على قراءة ماورائيات الأحداث والربط بينها، بل تفتقر إلى تجرّد عن أيّة خلفيّة بإمكانها أن تضرب بغشاوتها على البصائر.

يكفي أن يحرر المرء عقله من أسار الهالات المبتدعة، وأن يستذكر مكانة صاحب الحضرة النبوية المقدسة، ويجعله الميزان الأوحد في الولاء والبراء، بل يكفي أن يكون المرء منصفًا يحتكم إلى المنطق في أحكامه ومدركاته، فإذا كان كذلك تجلَّى له عمق الفاجعة وشناعة المأساة.

وهنا لا بد لي من لفت الانتباه إلى أن المفردات الهاتفة بتلك الحقيقة المرّة من الكثرة بمكان يخرج عن حوصلة بحثنا هذا مما يتطلب إدراجه في دراسة شاملة مفصلة مختصة، ولذا اقتصرنا على موارد منها غير مسهبين في تحليلها واستكناهها مكتفين ببعض الهوامش التنبيهيّة فحسب.

ولا يفوتني الإلماح إلى أنَّ ما بلغنا من صورٍ وسِيَرٍ قد مرَّ عبر قنواتٍ وليدة للمشروع الاختراقي المذكور ودانت له فكرًا وعقيدة وعملاً فكانت لا تخلو من حالين:

إما الاختلاق والتلفيق تشويهًا لصورة النبي الأعظم (صلى لله عليه وآله) وإظهاره بصورة ركيكة ضحلة، وإشادة برموز المشروع لخلق صورة زائفة الإشراق، فكانت الفضائل المختلقة وأحاديثها الملفقة استكمالاً للمخطط المرسوم.

وإما تصفية الوثائق التي لا يمكن إخفاؤها من رأس، وذلك بتمييعها والتقليل من أهميتها وتلبيسها الطابع العفوي الشخصي البسيط كما سيتبيَّن لنا في طيات عرض المفردات الآتية وتحليلها إن شاء الله تعالى.

وإذا عُلِم ذلك، فليعلم أن تلك المفردات على بشاعتها وفظاعتها ما هي إلا نتفٍ مجتزأة استعصت على الكتمان والتحريف ووصلت إلينا ملطّفة مخفَّفة، فإذا كان هذا هو النموذج المحسن فما بالك بما كان عليه واقع الحال؟!!

إيذاؤه (صلى لله عليه وآله) في أزواجه:

لا يخفى على ذي مِسكة ما أَوْلَته الشريعة الإسلاميّة من عناية وتشريف للمرأة في كل حالاتها أمًّا وبنتًا وأختًا وزوجة، وما فرضته من آليات لتقديس ساحتها ودفع الآفات والمفاسد التي تهددها، فهي الريحانة العطرة والزهرة النضرة التي يخشى عليها من ذبول داهم يذهب ببهائها وزهرتها، وهي الصانع الأساس للإنسان ذلك القطب لمدارات الخلقة بين ما لا يحصيه إلا الله من صنوف الخليقة، وهي الينبوع الصافي المرفَد بعذب فراته له في كل حالاته وهي جبهة الإمداد وفريق الإسناد الذي لولاه لا قيامة له في سوح نضاله وميادين جهاده.

لقد شاع على الألسن أنها نصف المجتمع وهي مغالطة سطحية بل هي المجتمع كل المجتمع إذ تشكل نصفه بنفسها أصالة حضورًا مباشرًا وتصنع النصف الآخر بناء وتسبيبًا.

لذلك نرى من الشرع حرصه الأكيد عليها واهتمامه الكبير بها، موافقة للفطرة السليمة التي أودعها الباري عز وعلا قبسًا من القوة الغضبية المحفزة على صونها وحمايتها من خائنة الأعين وجانية الأيدي مما يعرف بالغيرة التي هي من الإيمان يمتدح الله بها نفسه ويتباهى بها أولياؤه.

ولذلك أطلق على المرأة تسميات تبيِّن ما تمثله وما تعنيه في مجاميع العقلاء فهي العرض، والعرض وجهة الإنسان وسمعته وماء وجهه، وهي الشرف عند الإطلاق، فكأنَّ شرفه اختصر فيها.

وإذا كان هذا عند الشرفاء عامة فما بالك بمعدن الشرف وجوهره، أشرف الخلائق وأشدهم حياءً، أشد حياءً من العذراء في خدرها، وأغيرهم وهو القائل: (كَانَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) غَيُورًا وأَنَا أَغْيَرُ مِنْه وجَدَعَ اللَّه أَنْفَ مَنْ لا يَغَارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والْمُسْلِمِينَ)، وهو مع ذلك زعيم الأمة وسيد البلاد ومليك العباد.

فأيُّ أذىً يَلحَقُ به إذا ما مُسَّ شرفُهُ وتناولت ألسنةُ الهاذرين عِرضَه؟!

وأيُّ إيذاءٍ هذا الذي يأتيه في عقر داره ليصبح داره مَلاكَةً لمقاول المرجفين؟!

بل كيف له بالصبر وعيون المتظاهرين بولائه تتطاول بالخيانة على أزواجه، وما تخفي صدورهم أعظم؟!

الإفك

"وأنا أغير منه.."

حادثةٌ ما كان لعصابات التمويه أن تعفيَ آثارها، إذ أنزل الله فيها آيات تُرَتل إلى يوم يبعثون، ولولا ذلك لذهب الذاهبون بعينها وأثرها.

حادثة جزئية تنبي عن حالة كلّية وتعكس لنا واقعًا قائمًا في نفوس استفحل بها الداء.

لقد قلب التاريخ الجائر المنكوس الكثير من معالمها، فاستبدل أسماءً بأسماء وأدوارًا بأدوار، ولسنا مُصرّينَ في هذا المقام على تبيين ما غُيّرَ وبُدِّلَ إذ يكفينا وفاءً بالغرض أن نقارب الحدث على ما صُوّر وبحسبْنا ما أقرَّ به الآفكون.

لقد كان المجتمع المدنيُّ مساهمًا في جريمةٍ هي إحدى السبعِ الموبقات -الشركُ بالله، والسِّحرُ، وقتلُ النفسِ التي حَرَّمَ اللهُ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيم، والتَّولّي يومَ الزَّحف، وقذفُ المُحصَناتِ-، ومشاركًا في هذه المأساة متعاونًا على إيذاء النبي (صلى لله عليه وآله) بأنحاء ثلاث:

 فمنهم من اختلقه عامدًا عالمًا موصوفًا بقوله تعالى: {الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ..} فـ {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

ومنهم من حمله وأخذ به ونقله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}، وشرٌّ من ذلك استخفافهم بهذا الإثم، واستصغارهم لهذه الجريمة النكراء: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.

ومنهم من أخذ به ولم يحسن الظن فتأثر به وتجاوز الحدّ بالصمت على الفرية وعدم استنكارها بل بقبولها ضمنًا، فهلاّ كان منهم الذبّ عن عرض النبي (صلى لله عليه وآله) وتنزيه بيته مما يشينه: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}.

ليس المراد بهذه الآيات مجرد التنزيه ، كما أنها ليست بصدد إقامة الدليل على عصمة أزواج النبي (صلى لله عليه وآله) حتى يُقال برفض الفكرة من أساسها، ولم يُلتفت إلى امتناع وقوع الفاحشة منهن وما لها من تأثير إسقاطي عرفي لمكانة النبي (صلى لله عليه وآله) ومقبوليته بين الناس، ولذا جاءهم الكتاب الكريم ليؤاخذهم على الحدّ الأدنى الذي تجاوزوه بحيث لو كانت القضيّة تتعلق بعِرض أدناهم لأُُخِذوا به وأُوخِذوا عليه.

فكارثة الكوارث أنهم تقبّلوا الفرية دون شاهد مقبول ومسوّغ معقول : {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.

لقد بلغ الأمر من خطورته مرتبةَ نزول العذاب العظيم، ورَدَّةُ الفعلِ في العقابِ لا بُدَّ وأن تتناسبَ مع الفعلِ المُعاقَبِ عليه؛ فنستكشفُ عظمةَ الفعلِ وفداحتَهُ من العذابِ المترتِّبِ عليه اقتضاءً إنًّا، والذي منع من فعليته عظمةُ رحمة الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، بحيثُ أصبح العَودُ إلى الفعل وعدمُهُ فيصلاً بين الإيمانِ وعدمِهِ: {يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}([37]).

جاء الآفكون بإفكهم ولم يجدوا رادعًا من الناس يذكر وأصبحت الفرية حديث الساعة في المدينة تتمشى دارًا فدارًا مدة شهر كامل على ما أخرجه البخاري بإسناده عن عائشة:

.. فاشتكيتُ حين قدمتُ شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك..

هذا ورسول الله ملتزم الصمت المطلق، لم يصدر منه قليل ولا كثير حتى في داره إلا تغير يسير إذ لم تأنس منه زوجته ما تعودت عليه من لطف زائد حال توعكها: وهو يريبني في وجعي أنّي لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم اللطفَ الذي كنتُ أرى منه حين اَشتكي، إنما يدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم، فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟، ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعرُ بالشرِّ..([38]).

فاستأذنته أن تتحول إلى دار أبيها فأذن لها دون تعليق وبقي صابرًا طيلة تلك المدة بطولها حتى نزل الوحي بالآيات التي تقدمت وثبتت البراءة وافتضحت الفرية والمفترون وجاء التوبيخ الشديد كما تبيَّن سابقًا.

والعجب العجاب في صبره بعد نزول الآيات إذ التحقيق الذي لا يعروه ارتياب أنه (صلى لله عليه وآله) -وهو صاحب الولاية الكبرى- لم يُقِم حدَّ القذفِ على الآفكين وإن حاول البعض إثبات وقوع الحد.

فأما على ما روي في صحاح العامّة ومسانيدهم فإنّ الذي جاء بالإفك أولاً وتولّى كبره فهو عبد الله بن أبي بن أبي سلول، ولم يذكر أنه أُقيم عليه الحد، بل صرحت مصادرهم بعدم إقامته عليه. وهو الذي تجرأ في واقعة أخرى على شخص خاتم الأنبياء (صلى لله عليه وآله) بقوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}([39]).

يعني بالأعزّ نفسه وبالأذل -معاذ الله- رسول الله (صلى لله عليه وآله) الذي استجاب لولده بعد موته إذ طلب منه أن يعطيه قميصه ليكفِّنه به ويصلي عليه في واقعة سيأتي خبرها إن شاء الله تعالى.

هذا وإنَّنا لا نرتضي دعوى العامة في أن الحدَّ أُقيم على من أخذ منه الإفك فأشاعه، كحسان بن ثابت وسواه وأن رسول الله (صلى لله عليه وآله) لم يُقِم الحدَّ على ابن أبي بخصوصة خوف الفتنة؛ لما يتمتع به من منعة عشيرته ومرتزقته إذ حاشا لرسول الله (صلى لله عليه وآله) أن يقيم الحدَّ على من لا منعة له ويستثني المفتري الأول لمنعته بعشيرته وقومه تطبيقًا لسياسة الحصانة المختصة بالأقوياء وانحصار إجراء القوانين على الضعفاء، وحيث ثبت عدم إقامة الحد عليه فقد ثبت لازمه وهو عدم إقامته على أحد من أصحاب الإفك مطلقًا.

وأمّا على ما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بطرقنا فإنَّ سيدتنا أم إبراهيم هي التي كانت محل حسد بعض ضرائرها فانتقمن من حسنها وولادتها دونهن بالإفك عليها كسبب ظاهري لا ينافي ما نراه من كونه جزءًا من مشروع الجبهة الاختراقية، والآفك قد أُجّلت عقوبته إلى يوم ظهور القائم من آل محمد (صلى لله عليه وآله) حيث يخرجه من قبره بإذن الله غضًا طريًا ويجلده حد الفرية على مارية.

هذه هي مأساة الإفك وأين لا أين منها مأساة الشِّعبِ وإيذاء عتاة قريش وثقيف.

 وإن الحرَّ الأبيّ ليتمنى أن يُحزَّ بالمُدى والمواسي حيًا حتى يُشرّح إربًا إربًا على أن لا يذوق طعم الطعن هذا.

ومع ذلك رأينا سيّدَ الغيارى وأبا الأباة (صلى لله عليه وآله) كيف تعامل مع هذا الحدث بصبر وروية وتحمل ما تحمّله كاظمًا مسلّمًا.

طيلة شهر كامل لم ينطق بكلمة ولم يتخذ موقفًا يدافع فيه عن حرمه وما مسه من لذعات المعادين وبعدها كفَّ عن معاقبة المعتدين.

إنَّ مأساةَ الإفكِ في المقاييس العُرفيّةِ والعُقلائيّةِ لا تُقاس بحادثة الدار([40]) من حيث استفزازها غَيرَةَ الغَيورِ، وإيغارها لمُتَّقِدِ النارِ في الصدور، كيف؟! ولو خُيّرَ المرء بين أن يُمَسَّ عِرضُه شرفًا، أو أن يُقتلَ هو وأهلُ بيته صبرًا، لاختار التضحيةَ بالدِّماء على أن يطعن في شرفه. فكيف تُستَنكرُ أخبارُ صبر علي (عليه السلام) يوم الدار، وتكذبُ تذرّعًا بغَيرته، ولا يجري نظيرُها في صبر النبي (صلى لله عليه وآله) يوم الإفك؟؟!!

ولنا في الحلقة القادمة -إن شاء الله- مزيد من المواقف المحمديّة التي قَرّظها الوحي فسجلتها طروس التاريخ خالدة خلود البقاء، ملاحم تجلّت فيها أصالة الصبر في سنته (صلى لله عليه وآله).

{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.

وقد يعذرني القارئ الكريم إن رأى تكرارًا لبعض الملاحظات والتنبيهات في هذه الحلقة أو في الحلقات السابقة، لكن السبب أن الأبواق النافخة في فراغ العبثية المتشيطنة أصمَّتْ مسامع الكثيرين أو كادت، مما يفرض علينا أن نركِّز على تنبيهات لعلها كانت من البديهيات فتحوَّلت بفعل تلك الحركات إلى نظريات يشكك فيها أو فرضيات مستبعدة تنبذ ظهريّا، لقد استخفَّ هؤلاء العابثون بثوابت الحقائق والراقصون على جراح آل الله.

 (انتهى المقال)

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([30]) تفسير القمي ج1 ص390؛ التبيان للشيخ الطوسي ج6 ص428؛ مجمع البيان للطبرسي ج6 ص203؛ تفسير الصنعاني ج2 ص360؛ جامع البيان للطبري ج14 ص237؛ أحكام الإسلام للجصاص ج3 ص249.

([31]) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) ج1 ص127؛ الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة للسيد علي بن معصوم المدني ص256؛ الكنى والألقاب للمحدث الشيخ عباس القمي ج1 ص187؛ اُسد الغابة لابن الأثير ج4 ص44؛ تهذيب الكمال للمزي ج21 ص216؛ سير أعلام النبلاء للذهبي ج1 ص409؛ الإصابة لابن حجر ج4 ص 473؛ أنساب الأشراف للبلاذري ج1 ص160؛ المناقب للموفق الخوارزمي ص234؛ المستدرك للحاكم النيسابوري ج3 ص383؛ المعجم الكبير للطبراني ج24 ص303؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج1 ص161؛ تاريخ دمشق لابن عساكر ج43 ص360؛ الجوهرة في نسب الإمام علي وآله للبري ص99؛ المنتظم لابن الجوزي ج5 ص146.

([32]) نهج البلاغة ج4 ص61؛ مجمع البيان للطبرسي ج1 ص448؛ معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج2 ص101؛ تفسير الثعلبي ج2 ص53؛ تفسير السمعاني ج1 ص42؛ اسد الغابة ج1 ص29؛ وراجع بحار الأنوار لفخر الأمة العلامة المجلسي + ج16 ص121؛ قال الشريف الرضى في بيانه لهذا الحديث: ومعنى ذلك أنه إذا عظم الخوف من العدو واشتد عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال رسول الله (صلى لله عليه وآله) بنفسه فينزل الله عليهم النصر به ويأمنون مما كانوا يخافونه بمكانه.

([33]) مسند أحمد بن حنبل ج1 ص86؛ المصنف لابن أبي شيبة ج7 ص578؛ البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص340؛ عيون الأثر لابن سيد الناس ج2 ص422؛ سبل الهدى والرشاد ج4 ص46.

([34]) تفسير العياشي ج1 ص262 وعنه بحار الأنوار لفخر الأمة العلامة المجلسي ج16 ص340 والبرهان للسيد هاشم البحراني ج2 ص139.

([35]) الكافي الشريف ج1 ص90، التوحيد للشيخ الصدوق 174، الاحتجاج للطبرسي ج1 ص313 وعنهما بحار الأنوار ج3 ص283.

([36]) بلاغات النساء لابن طيفور ص13؛ المناقب لابن مردويه الإصفهاني ص202؛ التذكرة الحمدونية لابن حمدون ج6 ص256؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ج3 ص35؛ الشافي للشريف المرتضى ج4 ص72؛ الاحتجاج للطبرسي ج1 ص135؛ كشف الغمة للإربلي ج2 ص111؛ جواهر المطالب للباعوني الدمشقي الشافعي ص156.

([37]) النور11-20.

([38]) راجع على سبيل المثال: كتاب الشهادات من صحيح البخاري حديث الإفك ج3 ص154؛ وصحيح ابن حبان ج16 ص15؛ والمعجم الكبير للطبراني ج23 ص57؛ والسنن الكبرى للنسائي ج5 ص296؛ ومسند أبي يعلى الموصلي ج8 ص325؛ والمغازي للواقدي ج1 ص426؛ وتاريخ المدينة لابن شبة النميري ص312؛ ودلائل النبوة لأحمد بن الحسين البيهقي ج4 ص63؛ وعيون الأثر لابن سيّد الناس ج2 ص85؛ والخصائص الكبرى للسيوطي ص237؛ والسيرة الحلبية ج2 ص607؛ وتفسير ابن أبي حاتم الرازي ج8 ص2540؛ وتفسير البغوي ج3 ص329.

([39]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى لله عليه وآله) ج13.

([40]) لا يخفى على القارئ الكريم أننا سقنا الكلام في هذا المقام بين الحادثتين بمعزل النظر عن المجني عليها؛ ذلك أن سيدة النساء لا يقاس بها أحد من النساء قدرًا وشرفًا ورفعة ومقامًا فما ينزل بها من الأذى تتضاعف حزازته وتتصاعد شناعته بنسبة تفضيلها على من سواها.

ومع ذلك فإنَّ الفرق الفارق بين العنف الجسدي الذي أصاب رسول الله (صلى لله عليه وآله) في بضعته وبين الطعن في عرضه مما يؤثر على مكانته بين الناس لا ينكر، إذ في الطعن من المحذور ما لا يتأتى في الضرب والقتل.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع والعشرون