السنة العاشرة/ العدد السادس والعشرون /  كانون أول 2014م / ربيع أول 1436هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

أدب الدعاء - الفنّ المنفي

القسم الرابع

الشيخ مصطفى الشيخ سليمان يحفوفي

 

كنا قد شرعنا في المقالة السابقة باستعراض بعض النماذج المتعلقة بمرتبة وجود الحقيقة الإلهية وما لها من الخصائص والشؤون، ونتابع هنا استعراض بعض النماذج الأخرى المرتبطة بالعنوان نفسه.

النموذج الثالث: تنزيه مبدأ الوجود وتقديسه

إلى جانب مشاعر محبة مبدأ الوجود وعشقه، تنبض نصوص أدب الدعاء بصنوف أخرى من المشاعر المتولّدة عن معرفة الله تعالى. نشير من بينها في نموذجنا الحالي إلى مشاعر التنزيه والتقديس.

يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في مناجاة الذاكرين: [إلهِي لَوْلا الْواجِبُ مِنْ قَبُولِ أمْرِكَ لَنَزَّهْتُكَ مِنْ ذِكْرِي إيَّاكَ، عَلى أَنَّ ذِكْرِي لَكَ بِقَدْرِي، لا بِقَدْرِكَ، وَما عَسى أَنْ يَبْلُغَ مِقْدارِي، حَتّى أُجْعَلَ مَحَلاً لِتَقْدِيسِكَ، وَمِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْنا جَرَيانُ ذِكْرِكَ عَلى أَلْسِنَتِنَا، وَإذْنُكَ لَنا بِدُعآئِكَ وَتَنْزِيهِكَ وَتَسْبِيحِكَ] ([1]).

إنه لمن الفطري والمألوف أن يلهج الإنسان بذكر الأحبة، ويصدح بحمد أُولي الفضل، كما أنه لمن المستحسن والمعروف أن يتقدّم الإنسان بعذره ويبرّر موقفه، إذا ما قصّر في الذكر والحمد، أو حال بينه وبين ذلك حائل([2]).

والإمام السجاد (عليه السلام) يفتتح المناجاة التي بين أيدينا بالاعتذار، غير أن اعتذاره (عليه السلام) لم يلتزم النهج السائد، ولم ينحُ النحو الدارج، بل جاء فريدًا في بابه، واستثنائيًا في طريقته، والسرّ في فرادته هو أنه (عليه السلام) -وعلى خلاف كل ما هو شائع ومتداول- يقدّم اعتذاره لأنه يذكر الله تعالى([3])، ولأنه يردّد اسمه على لسانه، وليس العكس، ولذلك نجده (عليه السلام) يقول: [إلهِي لَوْلا الْواجِبُ مِنْ قَبُولِ أمْرِكَ لَنَزَّهْتُكَ مِنْ ذِكْرِي إيَّاكَ].

فالإمام (عليه السلام) وبما يمتلك من عمق الفكرة وشفافية النفس ورهافة الحس...، يرى أن الله تعالى أجلّ من أن ينطق الإنسان باسمه أو يلهج بذكره. ولولا أنه تقدست أسماؤه هو الذي أمرنا بأن نذكره وندعوه لنأى الإمام بنفسه عن هذا الأمر، ولتورّع عن إتيان مثل هذا الفعل. على أن إباحة الإمام (عليه السلام) لنفسه أن يذكر الله تعالى -طاعة لأمره- لا تمسّ بروح القداسة، ولا تنتقص من شعور التنزيه، إذ إن ذكر الإنسان لله سبحانه، ومهما سما الإنسان أو ترقّى يبقى محدودًا بحدود قدر الإنسان، وقاصرًا أبدًا عن قدر المولى تبارك اسمه، وهذا ما عبّرت عنه المناجاة بالقول: [عَلى أَنَّ ذِكْرِي لَكَ بِقَدْرِي، لا بِقَدْرِكَ، وَما عَسى أَنْ يَبْلُغَ مِقْدارِي، حَتّى أُجْعَلَ مَحَلاً لِتَقْدِيسِكَ؟!].

وإذا كان مقدار الإنسان -كما يعلّمنا الإمام (عليه السلام)- لا يرقى لأن يُجعل محلاً لتقديس الله سبحانه، فإنها لّنعمة عظيمة إذن أن يأذن المولى جلّ شأنه بجريان ذكره على ألسنتنا: [وَمِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْنا جَرَيانُ ذِكْرِكَ عَلى أَلْسِنَتِنَا، وَإذْنُكَ لَنا بِدُعآئِكَ وَتَنْزِيهِكَ وَتَسْبِيحِكَ].

وهكذا نجد أن الرؤية التي تبديها مناجاة الذاكرين حول ذكر مبدأ الوجود لهي رؤية خاصة وفريدة، مفعمة بأشد المشاعر رهافة، وأصفاها شفافية، بل إنها لتصطنع منطقها الخاص المغاير للمنطق السائد في النصوص الأدبية التي تتعرّض لذكر الأحبة أو لحمد ذوي المنزلة وأولي الفضل.

النموذج الرابع: الرضى بالوجود

كثيرة هي النصوص الدالة على مشاعر الرضى بالوجود في أدب الدعاء، وقد انتخبنا منها ثلاثة أمثلة لنشير بها إلى تنوّع تلك المشاعر، وتعدّد مجالاتها وسِعة مساحتها.

المثال الأول: الدعاء عند المرض:

تتناوب على الإنسان في رحلته الوجودية حالات كثيرة متقلّبة، يستشعر في بعضها الهناءة والراحة والخير، ويستشعر في بعضها الآخر أضداد هذه الأمور ونقائضها.

وحين يتناول أدب الدعاء أمثال هذه الحالات المتقابلة، فإنه يعلّمنا أن ننفذ إلى بواطنها، لنستكشف ما تنطوي عليه من حكمة، وما تشتمل عليه من مصلحة، فيقودنا بذلك إلى النظر إليها كلها بنظرة واحدة مشتركة، هي نظرة الرضى والتسليم.

ومن الأمثلة على ذلك دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا مرض، وفيه يقول([4]): [فَمَا أَدْرِي، يَا إِلَهِي، أَيُّ الْحَالَيْنِ أَحَقُّ بِالشُّكْرِ لَكَ؟ وأَيُّ الْوَقْتَيْنِ أَوْلَى بِالْحَمْدِ لَكَ؟ أَوَقْتُ الصِّحَّةِ الَّتِي هَنَّأْتَنِي فِيهَا طَيِّبَاتِ رِزْقِكَ، ونَشَّطْتَنِي بِهَا لابْتِغَاءِ مَرْضَاتِكَ وفَضْلِكَ، وقَوَّيْتَنِي مَعَهَا عَلَى مَا وَفَّقْتَنِي لَهُ مِنْ طَاعَتِكَ؟ أَمْ وَقْتُ الْعِلَّةِ الَّتِي مَحَّصْتَنِي بِهَا، والنِّعَمِ الَّتِي أَتْحَفْتَنِي بِهَا؟ تَخْفِيفًا لِمَا ثَقُلَ بِهِ عَلَيَّ ظَهْرِي مِنَ الْخَطِيئَاتِ، وتَطْهِيرًا لِمَا انْغَمَسْتُ فِيهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وتَنْبِيهًا لِتَنَاوُلِ التَّوْبَةِ، وتَذْكِيرًا لِمَحْوِ الْحَوْبَةِ]([5]).

تحمل كلمات هذا الدعاء فهمًا إيجابيًا عميقًا للوجود، وهو فهم يبدّل من نظرتنا إلى الواقع تبديلاً جذريًا حيث إنه لا يقف عند ظواهر الأمور ليعتبرها هي الحقائق النهائية والأخيرة، بل إنه يفتح بصائرنا على ما يكمن خلف هذه الظواهر من معانٍ ومعطيات.

وعلى هذا الأساس، فإن حالاً كحال المرض، والذي يُنظَر إليه عادةً على أنه شرّ من الشرور، يصبح في منطق الدعاء سببًا من أسباب الرحمة والنفع العميم، وذلك لأن المرض في الرؤية الكونية للدعاء، يمثل طريقًا من طرق اختبار الإنسان وتمحيصه، كما أنه يحطّ من الخطيئات، ويطهّر من السيئات، وينبّه الإنسان على ما فيه من وهن، لكي يرجع إلى مولاه، طالبًا منه التوبة ومحو ما ارتكبته يداه من الآثام([6]).

فالمرض في منطق الدعاء ليس كما يبدو في ظاهره، أي أنه ليس مجرد نوع من الاختلال والوهن، ولا هو مجرد معاناة للآلام، بل إن ظاهره هذا ينطوي على جملة من النعم التي لا تقلّ شأنًا عن النعم التي يحصل عليها الإنسان في وقت الصحة، وهو الوقت الذي يتاح له فيه أن يهنأ بطيبات الرزق، وأن ينشط لابتغاء مرضاة الله، ويقوى على طاعته وعبادته جلّ ثناؤه.

وانطلاقًا من هذا، يمكننا أن نفهم المعنى العميق للتساؤل المدهش والصادم الذي يطرحه الإمام (عليه السلام) في بداية النص الذي بين أيدينا، والذي يعرب فيه عن الحيرة في تعيين أيّ الحالين هو أولى بالشكر، أهو وقت الصحة والعافية، أم وقت العلّة والمرض؟

وكل ذلك يُظهِر لنا -مرة أخرى- عظمة مدرسة الدعاء، وتميُّز رؤيتها الكونية، وما تتركه من أثر بالغ على نظرة الإنسان إلى الوجود، وعلى فهمه لطبيعة هذا الوجود وإدراكه لأسراره، ومن ثمَّ على موقفه تجاه الوقائع والأحداث وطريقة تقييمه لها.

وما أوسع الفرق -بعد هذا- وما أبلغ الأثر على حياة الإنسان، بين أن يَرى في حالات الشدة ومواضع المحن، أمورًا سلبية، وظروفًا معادية، ونقائص في طبيعة الوجود، وبين أن يَرى فيها الرحمة والعطف والتحنان، وأسبابًا للتكامل، وعللاً لليقظة، وفرصة لاستئناف النهوض!!

المثال الثاني: دعاء في الرهبة([7]):

ونورد من هذا الدعاء ما يرتبط منه بموضوع بحثنا، وهو المقطع التالي:

[فَارْحَمْنِيَ اللَّهُمَّ فَإِنِّي امْرُؤٌ حَقِيرٌ، وخَطَرِي يَسِيرٌ، ولَيْسَ عَذَابِي مِمَّا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، ولَوْ أَنَّ عَذَابِي مِمَّا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ لَسَأَلْتُكَ الصَّبْرَ عَلَيْهِ، وأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَكَ، ولَكِنْ سُلْطَانُكَ اللَّهُمَّ أَعْظَمُ، ومُلْكُكَ أَدْوَمُ مِنْ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ طَاعَةُ الْمُطِيعِينَ، أَوْ تُنْقِصُ مِنْهُ مَعْصِيَةُ الْمُذْنِبِينَ، فَارْحَمْنِي يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ]([8]).

يعبّر الإمام السجاد (عليه السلام)في هذا المقطع من الدعاء عن حالة من أسمى حالات الرضى بالوجود، وعن صورة من أمثل صور العبودية لله تعالى والتسليمِ المطلق لمشيئته. ويكفينا دلالةً على ذلك قوله (عليه السلام): [ولَوْ أَنَّ عَذَابِي مِمَّا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ لَسَأَلْتُكَ الصَّبْرَ عَلَيْهِ، وأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَكَ].

فهل يمكننا أن نتصور تعبيرًا عن التسليم والرضى أبلغ مما تفصح عنه هذه العبارات؟! بل أنّى لنا أن نتخيل تسليمًا أو رضى أقصى من أن يحبّ الإنسانُ أن يحلَّ به العذاب -ومهما اشتد أو عظم- ما دام هذا العذاب مما يزيد في ملك مولاه أو يوسّع من سلطانه؟!

ولربما يثير موقف الإمام هذا شيئًا من الاستغراب لدى البعض، فيرى فيه نوعًا من أنواع المبالغة في التعبير أو نحوًا من أنحاء المثالية العصية على الفهم.

ولكن لو تدبّر المرء كلام الإمام (عليه السلام) وأحسن الالتفات إليه، لأدرك واقعية معانيه وخلوّه من أية مبالغة أو مغالاة، وشاهدنا على ذلك هو أن الإمام (عليه السلام) لم يطلق القول بحبّه العذاب إطلاقًا، بل وطّأ له بتوطئة ضرورية يقتضيها منطق الصدق والواقعية، وهي قوله (عليه السلام) [لَسَأَلْتُكَ الصَّبْرَ عَلَيْهِ]، ولم يكتفِ بالقول (ولو أن عذابي يزيد في ملكك ... لأحببت أن يكون ذلك لك). بل قال : [ولَوْ أَنَّ عَذَابِي مِمَّا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ لَسَأَلْتُكَ الصَّبْرَ عَلَيْهِ، وأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَكَ]، فجاء بعبارة (لسألتك الصبر) لتكون هي التوطئة الملائمة لإعلانه عن حبّ العذاب، فهو (عليه السلام) يسأل الله تعالى -أولاً- أن يعطيه الصبر ويهبه القدرة على تحمّل العذاب، ليعلن بعدها عن حبّه لأن يكون ذلك له تعالى.

وبذلك يظهر لنا ما في كلامه (عليه السلام) من مراعاة الدقة وصدق المقولة وواقعية الموقف.

المثال الثالث: دعاء الجوشن الصغير([9]):

يقول تعالى في كتابه المجيد: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}([10])، ومع ذلك فإن الإنسان قد يألف وجود مثل تلك النعم في حياته ويعتادها، مما قد يفضي به إلى الغفلة عنها، فينسى وجودها، ولا يعود يقدّرها حقّ قدرها.

وهنا يبرز دور إحدى الوظائف المهمة لأدب الدعاء، ألا وهي وظيفة إيقاظ الإنسان من غفلته، وتذكيره بما يملأ حياته من النعم المنسية، لكي يؤوب إلى واهب تلك النعم، وتتفتحَ في كيانه مشاعر الرضى بالوجود. وقد شكّلت هذه الوظيفة المقصد الأول والأهم من مقاصد دعاء الجوشن الصغير.

ولسنا نبتغي في المقام دراسة هذا الدعاء دراسة موسعة، وإنما نودّ فقط أن نشير إلى طبيعة بنائه الفني، وإلى علاقة هذا البناء بالوظيفة المذكورة وما يرشح عنها من مشاعر الرضى بالوجود.

ولبيان ذلك نقول:

إن دعاء الجوشن الصغير يتألف من قسمين رئيسيين يشتركان في تأدية الوظيفة المشار إليها. لكنّا ولكي لا نطيل الكلام كثيرًا فإننا سوف نركز اهتمامنا على القسم الثاني فقط، وذلك لأن هذا القسم، وعلاوة على كفايته في إيضاح المطلوب، فإنه يكاد يكون بمضمونه وأسلوبه من مختصات دعاء الجوشن الصغير.

ولأجل إعطاء فكرة واضحة عن صورة القسم الثاني من الدعاء، سنعمد إلى اختيار ثلاثة من مقاطعه، نمثل بها لبقية مقاطعه الأخرى، ونكشف من خلالها عن طبيعة البناء الفني للدعاء، وعن دور هذا البناء في تأدية الوظيفة المرادة، والهدف المقصود.

المقطع الأول: وهو يصوّر مشهد الإنسان حال الموت، وما يعانيه من سكراته، فينصّ قائلاً: [إِلـهي وَكَمْ مِنْ عَبْدٍ أََمْسى وَأََصْبَحَ في كَرْبِ الْمَوْتِ وَحَشْرَجَةِ الصَّدْرِ وَالنَّظَرِ إِلى ما تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الجُلُودُ وَتَفْزَعُ لَهُ القُلُوبُ، وأَنَا في عافِيَة مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ، فَلَكَ الْحَمْدُ يا رَبِّ مِنْ مُقْتَدِر لا يُغْلَبُ وَذي أناة لا يَجْعَلُ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَاجْعَلْني لِنَعمائِكَ مِنَ الشّاكِرينَ وَلآلائِكَ مِنَ الذّاكِرينَ]([11]).

المقطع الثاني: وفيه تصوير لمشهد مقاساة الحرب وما يعانيه الإنسان من شدائدها، وهذا نصّه: [إِلـهي وَكَمْ مِنْ عَبْدٍ أمْسى وَأَصْبَحَ يُقاسِي الْحَرْبَ وَمُباشَرَةَ الْقِتالِ بِنَفْسِهِ، قَدْ غَشِيَتْهُ الأعْداءُ مِنْ كُلِّ جانِب بِالسُّيُوفِ وَالرِّماحِ وَآلَةِ الْحْربِ، يَتَقَعْقَعُ فِي الْحَديدِ، قَدْ بَلَغَ مَجْهُودَهُ لا يَعْرِفُ حيلَةً وَلا يَجِدُ مَهْرَبًا، قَدْ أُُدْنِفَ بِالْجِراحاتِ، أَوْ مُتَشَحِّطًا بِدَمِهِ تَحْتَ السَّنابِكِ وَالأرْجُلِ، يَتَمَنّى شَرْبَةً مِنْ ماء أوْ نَظْرَةً إِلى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، لا يَقْدِرُ عَلَيْها، وَأَنَا في عافِيَة مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ، فَلَكَ الْحَمْدُ يا رَبِّ مِنْ مُقْتَدِر لا يُغْلَبُ وَذي أناة لا يَعْجَلُ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَاْجَعَلْني لِنَعْمائِكَ مِنَ الشّاكِرينَ وَلآلائِكَ مِنَ الذّاكِرينَ].

المقطع الثالث: يقوم هذا المقطع بتصوير مشهد التائه في المفاوز مع الوحوش، وهو لا يعرف حيلة ولا يهتدي سبيلاً، وهذه عبارته: [إِلـهي وكَمْ مِنْ عَبْدٍ أَمْسى وأَصْبَحَ مُسافِرًا شاخِصًا عَنْ أهْلِهِ وَوَلَدِهِ، مُتَحَيِّرًا فِي الْمَفاوِزِ تائِهًا مَعَ الْوُحُوشِ وَالْبَهائِمِ وَالْهَوامِّ، وَحِيدًا فَريدًا لا يَعْرِفُ حيلَةً وَلا يَهْتَدي سَبيلاً، أوْ مُتَأَذِّيًا بِبَرْد أوْ حَرٍّ أوْ جُوع أوْ عُرْي أوْ غَيْرِهِ مِنَ الشَّدائِدِ مِمَّا أَنَا مِنْهُ خِلْوٌ وفي عافِيَة مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ، فَلَكَ الْحَمْدُ يا رَبِّ مِنْ مُقْتَدِر لا يُغْلَبُ وَذي أناة لا يَعْجَلُ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد واجْعَلْني لِنعمائِكَ مِنَ الشّاكِرينَ ولآلائِكَ مِنَ الذّاكِرينَ].

وعلى النسق نفسه تتوالى بقية مقاطع القسم الثاني من الدعاء، لتسيرَ على نهج أمثلتنا الثلاثة في أسلوبها، وفي طريقة بنائها، وفي عناصر تركيبها.

ولبيان النهج المقصود، نرجع إلى المقاطع التي مثلنا بها، لنجد أن كلاً منها يتدرج عبر خطواتٍ ثلاث، تشكّل كل واحدة جزءًا من أجزائه. وتبدأ الخطوة الأولى بتصوير مشهد من مشاهد المعاناة الإنسانية، كمشهد سكرات الموت في المثال الأول، ومشهد مقاساة الحرب في المثال الثاني، ومشهد التائه في المفاوز في المثال الثالث.

ثم يأتي بعد ذلك دور الخطوة الثانية، وفيها يجري تنبيه الإنسان على ما هو فيه من حسن الحال، ومن السلامة والعافية، والخلو من أمثال تلك المعاناة، وهو ما عبّرت عنه أمثلتنا بالقول: [وأنا في عافية من ذلك كله]، بينما عبّرت عنه بعض المقاطع الأخرى بتعابير مشابهة، من قبيل: [وأنا في صحة من البدن، وسلامة من العيش]، ومن قبيل: [وأنا في أمن وطمأنينة وعافية من ذلك كله]، أو من قبيل: [ وأنا المخدوم المنعَّم المعافى المكرَّم في عافية مما هو فيه].

وأخيرًا نصل مع الخطوة الثالثة، إلى مِسْك الختام، حيث يتوجه الداعي مبتهِلاً إلى الله تعالى لكي يجعله من الشاكرين لنعمائه، والذاكرين لآلائه.

وتتكرر عبارات هذه الخاتمة في جميع المقاطع، وبالألفاظ عينها تقريبًا، باستثناء تغييرات طفيفة في بعض الموارد.

والآن.. وبعد أن تعرّفنا على طبيعة البناء الفني للدعاء، فإنه يجدر بنا أن نتعرّف على علاقة هذا البناء بالوظيفة التي يسعى الدعاء إلى تأديتها، وهو ما سنحاول الكشف عنه عبر استكشاف وظائف كل واحدة من الخطوات الثلاث المزبورة.

وظيفة الخطوة الأولى

ونبدأ مع الخطوة الأولى، والمتمثلة في تصوير جملة من مشاهد الآلام والمآسي الإنسانية، فنلاحظ هنا أن استحضار هذه المشاهد بصورتها الحيّة، إنما يهدف إلى توجيه انتباه القارئ نحوها، لكي يستذكر ما يمكن أن يتعرّض له المرء من المآسي والشدائد والأهوال.. فيهتزُّ لذلك كيانه، ويتحرك وجدانه، فيستشعر في دخيلة نفسه بآلام الموت، وشدائد مقاساة الحرب، وفزع الضلال في المفاوز مع الوحوش..

ولكي ينجز الدعاء هذه الوظيفة، ويُحدث التأثير المطلوب، فإنه يلجأ إلى استخدام ما يناسب ذلك من الوسائل والأساليب الفنية المختلفة، ومن أبرزها الوسائل الثلاث التالية، وهي: تكثير المشاهد، وتنويعها، واستخدام أسلوب التصوير الحسي في وصفها.

الوسيلة الأولى: تكثير المشاهد

يبدو أن الدعاء قد لجأ إلى استخدام الوسيلة الأولى -أي تكثير المشاهد- لكي يطيل مكث القارئ في حضرتها ليتسنّى له بذلك التفاعل معها، والعيش في أجوائها، والشعور بما تحكي عنه من المآسي والآلام.

وهذا بخلاف ما لو مرّ المرء عليها مرورًا عاجلاً، وعبر عدد قليل منها، لأنه والحال هذه، لا يكاد يلتقي بها، ويشرع في معايشتها، حتى يطوي صفحتها، وينفض يده منها، ودون أن تترك في نفسه الأثر المطلوب.

الوسيلة الثانية: تنويع المشاهد

وأما الوسيلة الثانية: -وهي تنويع المشاهد- فلعلّ أبرز أغراضها اثنان:

أولهما الكشف عن مختلف أنواع الأخطار والشدائد والأهوال التي يمكن حدوثها، وتنبيه الإنسان على إمكانية أن يتعرّض هو نفسه لأمثال تلك الأحداث، فيعاني من آثارها، ويقاسي من تبعاتها.

وأما غرضها الثاني فهو يتمثل في إتاحة الفرصة أمام القرّاء على اختلاف مشاربهم لكي يتفاعل كلٌّ منهم مع ما يمكن أن يؤثر فيه من الأحداث والصور. إذ قد يغلب على البعض -مثلاً- تأثره بمشهد الموت، وقد يغلب على غيره تأثره بمشهد الضياع في المفاوز، بينما يغلب على آخرين تأثرهم بمشهد مقاساة الحرب. وبهذا الأسلوب يتمكّن الدعاء من التأثير على مختلف صنوف الناس، ومهما تعددت ميولهم، أو تنوّعت أمزجتهم.

الوسيلة الثالثة: التصوير الحسي

إن إحدى السمات البارزة لدعاء الجوشن الصغير، هي لجوء هذا الدعاء إلى استخدام لغة التصوير الحسي الغنيّة بالتفاصيل، وهو ما نلحظه جليًا في تصويره لجميع المشاهد التي يستعرضها، ولا ريب في أن هذه اللغة هي الأنسب لتصوير الوقائع والأحداث، وللتعبير عما يحتفّ بها من الأحاسيس والمشاعر، ولذلك فهي الأقدر أيضًا -في مثل هذا المقام- على التأثير على المتلقّي، وعلى بثّ المشاعر في نفسه. وهذا ما لا يتسنّى مثله للغة المفاهيم العامة والمعاني المجردة، إذ إن لهذه اللغة الأخيرة ميدانها المغاير لهذا الميدان.

وظيفة الخطوة الثانية:

ذكرنا سابقًا أن الدعاء، وبعد أن يصوّر في الخطوة الأولى مشاهد المآسي والآلام، فإنه ينعطف في الخطوة الثانية إلى تنبيه الإنسان على ما هو فيه من العافية والسلامة. وبهذا تتضّح لنا ماهية الخطوة الثانية، إذ يغدو من الجلي أن ما عمد إليه الدعاء من تصوير المشاهد وتنويعها، لم تكن غايته الأخيرة هي مجرد خلق مشاعر الألم وتسبيب المعاناة، بل أراد من ذلك غاية أخرى وراء تلك الغاية، وهي فتح بصيرة الإنسان على ما يغمر حياته من النعم الكثيرة، والمنن الوافرة، ولذلك يعود الدعاء ليستلّ الإنسان من جوّ المآسي والأهوال، مذكّرًا إياه بما هو عليه من حسن الحال، وراحة البال، فيملأ نفسه حينئذ بمشاعر الرضى بالوجود.

وظيفة الخطوة الثالثة :

بعد أن يوجِّه الدعاء الإنسان إلى العيش في أجواء المآسي والآلام، وبعد أن يذكره بحسن حاله، وبكثرة نعم الله تعالى عليه، تأتي حينئذ وظيفة الخطوة الثالثة، وهي توجيه الإنسان إلى تأدية واجب شكر المنعم تعالى على ما أنعم وأفاض. ولذلك كان مسك الختام لكل مقطع من المقاطع هو العبارتان التاليتان: [وَاجْعَلْني لِنَعمائِكَ مِنَ الشّاكِرينَ وَلآلائِكَ مِنَ الذّاكِرينَ].

ويتلخّص لنا من كل ما سبق أن دعاء الجوشن الصغير قد تولّى إبداع صفحة مشرقة من صفحات التعبير الأدبي عن الرضى بالوجود، وقد توفّر له في سبيل إبداعها كل ما يحتاجه الأمر من الإمكانيات الأدبية، والطاقات الفنية، والقدرات الإبداعية.

ويبقى علينا أن نشير أخيرًا إلى وجود خصائص فنية أخرى كثيرة لهذا الدعاء، غير أنّا -وتجنبًا للإطالة- قد سكتنا عنها، فلم نُشر مثلاً إلى ما تتصف به لغة هذا الدعاء من المهابة والجلال، مما يجعلها تتناسب مع ما تريد أن تعبّر عنه من جلال الموقف وهول الأحداث.

وكذلك لم نتوقّف عند اللازمة التعبيرية المتكررة في آخر كل مقطع من المقاطع، وهي: [فَلَكَ الْحَمْدُ يا رَبِّ مِنْ مُقْتَدِر لا يُغْلَبُ وَذي أََناة لا يَعْجَلُ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَاجْعَلْني لِنَعمائِكَ مِنَ الشّاكِرينَ وَلآلائِكَ مِنَ الذّاكِرينَ]، فلم نُشِر إلى الغاية من تكرارها، ولا إلى دورها المعنوي، ولا إلى وظيفتها الموسيقية، سيما وأنها تحاكي بعض السور القرآنية التي تستخدم مثل هذه اللازمة، كسورة الرحمن التي تتكرر فيها اللازمة التعبيرية: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}([12])، وكذلك غيرها من السور([13]). إلى آخر ما هنالك من خصائص دعاء الجوشن الصغير، والتي تكشف عن مدى ما تشتمل عليه نصوص أدب الدعاء من الغنى والإبداع.

وفي ختام حديثنا عن صورة الوجود في أدب الدعاء وعمّا يرتبط بهذه الصورة من المشاعر والأحاسيس، نرجو أن نكون قد وفّقنا إلى ما كنّا نصبو إليه من التدليل على أنّ أدب الدعاء قد استطاع أن يعبّر تعبيرًا فنيًّا راقيًا عن الإحساس بالوجود والامتلاء بهذا الوجود. وذلك خلافًا لما ادّعاه "قطب" من أن العرب قد انقطعوا عن التعبير الفنّي نتيجةً لفقدانهم القدرة التي يتطلبها التعبير عن مثل هذا الإحساس.

فإذا تحقّق لنا ما كنّا نصبو إليه فإنّا نكون قد أثبتنا بذلك قضيتين مهمّتين: أولاهما هي عدم انقطاع العرب عن التعبير الفنّي. وثانيتهما هي أن القدرة الفنية لمثل هذا النوع من التعبير قد توفّرت بأبهى صورها في نصوص أدب الدعاء.

(وللبحث صِلة بعون الله تعالى)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) مناجاة الذاكرين، وهي المناجاة الثالثة عشرة من المناجاة الخمس عشرة للإمام السجاد (عليه السلام)..

([2]) من أمثلة ذلك: اعتذار المتنبي عن ترك مدح الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول:

وتركتُ مدحي للوصي تعمدًا
وإذا استطالَ الشيءُ قامَ بنفسه

 

إذ كان نورًا مستطيلاً شاملاً
وصفاتُ ضوءِ الشمسِ تذهبُ باطلاً

ومثله اعتذار أبي النواس عن تركه مدح الإمام الرضا (عليه السلام) حيث يقول:

قيل لـــي أنـت أوحد الناس طرًا
لك مــن جـوهر الكلام بديعٌ
فعلامَ تركتََ مدحَ ابن موسى
قلت لا أهتدي لمـدح إمام

 

فـي فـنونٍ مـن الكلام النبيه
يثـمر الــدرَّ في يدَيْ مجتنيه
والخصـال التي تجمَّعن فيه

كان جـبريل خادمًا لأبـيه

 ([3]) يشكّل هذا الاعتذار نقطة مهمة جدًا في فهم طبيعة استغفار المعصوم من المعاصي والذنوب، فنحن نجد أن الإمام (عليه السلام) يعتذر هنا لأنه يذكر الله سبحانه، فهو ينزّه الله تعالى، عن ذكرِنا إياه، إذ لولا أمره تعالى لنا أن نذكره، لكان الإمام (عليه السلام) تجنّب أن يذكره بلسانه، هذا مع أن ذكر الله تعالى في عُرفِنا هو طاعة من أظهر الطاعات.

وخلاصة القول هي: أن معنى الذنب لدى الإمام (عليه السلام) لا يتطابق مع معنى الذنب في عرفنا نحن. ولذا قيل: "حسنات الأبرار سيئات المقربين".

([4]) الصحيفة السجادية الكاملة، من دعائه (عليه السلام) إذا مرض أو نزل به كرب أو بلية.

([5]) الحوبة: الإثم.

([6]) يفتح هذا الدعاء بابًا واسعًا أمام الإنسان لكي يفهم مسألة العدل الإلهي فهمًا معمّقًا وصحيحًا.

([7]) الصحيفة السجادية الكاملة، من دعائه (عليه السلام) في الرهبة.

([8]) نقع في هذا الدعاء على محاجّة طريفة يتقدّم بها الإمام السجاد (عليه السلام) بين يدي الله تعالى، ولهذه المحاجّة نظائر أخرى في أدعيته (عليه السلام)، نذكر منها: دعاؤه في الاعتراف وطلب التوبة، ودعاؤه في اللّجأ إلى الله تعالى، ودعاؤه في طلب الحوائج إلى الله تعالى، ودعاؤه إذا استقال من ذنوبه... وتتصّف هذه المحاجّات جميعها بطرافة الفكرة، وعمق المعنى، وحلاوة الأسلوب. الأمر الذي يجعل من الإمام السجاد (عليه السلام) محامي الإنسانية الأبرز، الذي ينطق بلسانها ويعلّمها أدب الخطاب مع الله سبحانه، ويدلّها على دروب الخلاص. ولذا فإنه لمن الشيّق والمفيد أن تعقد لفنّ المحاجّة في أدب الدعاء أبحاث ودراسات مستقلة.

([9]) الجوشن: الدرع. ونعته بـ"الصغير" إنما هو لتمييزه عن دعاء آخر أطول منه يحمل اسم دعاء الجوشن الكبير.

([10]) إبراهيم: 34.

([11]) بحار الأنوار : ج91 ص322.

([12]) سورة الرحمن 13.

([13]) كسورة القمر التي تكرر اللازمة: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}، وكسورة المرسلات التي تكرر اللازمة: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}...

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السادس والعشرون