العدد الثاني / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = نظرة في الاجتهاد ومباديه

عود على بدء

العلماء يبحثون مثلاً في الأصول اللفظية عن عدة أمور:

أولها: الوضع وأقسامه.

وصور الوضع في مرحلة الثبوت أربعة: وضع عام والموضوع له عام، ووضع خاص والموضوع له خاص، ووضع عام والموضوع له خاص، ووضع خاص والموضوع له عام.

ونقول: لا ريب في وقوع الوضع العام والموضوع له العام في اللغة العربية كأسماء الأجناس، ولا ريب في وقوع الوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الأعلام الشخصية، كما أننا نقول باستحالة الوضع الخاص والموضوع له العام، ونقول بإمكان الوضع العام والموضوع له الخاص ونمثل له بوضع الحروف وأسماء الإشارة وما أشبهها.

ثم يتعمق علماء الأصول ويثبتون في النهاية أن الحروف وأشباهها موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام، لاستحالة أخذ الخصوصية الآتية من قبل الاستعمال التي هي في الرتبة الثالثة في سلسلة العلل بالنسبة للوضع، في نفس الموضوع له الذي هو في الرتبة الثانية من هذه السلسة، قائلين ما لفظه بالحرف (لاستحالة أخذ ما لا يمكن الإتيان به من قبل الاستعمال في المستعمل فيه)، وقد اشتهر هذا المبحث باسم (المعنى الحرفي).

ثم نبحث في الأصول اللفظية أيضًا في أن المركَّبات في اللغة العربية هل هي موضوعة بوضع مستقل أو لا؟

وإنما جاء هذا النـزاع لأننا نجد المفردات لها دلالة، ثم إذا ركَّبنا بعضها مع بعض وجدنا لها دلالة ثانية، وإذا عكسنا تركيبها كان لها دلالة ثالثة، وإذا غيّرنا بها حرفًا واحدًا كان لتلك الجملة دلالة رابعة.

فإذا عرفنا معنى [زيد] ومعنى [قام]، ثم ركّبناهما جملة واحدة، وقلنا [قام زيد]، كان في هذه الجملة إسناد وربط بين زيد وقام، وهذا شيء لم يكن في لفظة زيد وحده ولا في لفظ قام وحدها وإنما حدث بعد التركيب، وهاتان الدلالتان لعلهما موجودتان في جميع اللغات، حتى قيل إن [است] بالفارسية و[استين] باليونانية، تدلان عليه، وحاول بعضهم جعل [كان] و[كائن] ترجمة لـ[است] و[استين].

ولكن إذا قدّمنا زيدًا على قام، وقلنا: [زيد قام] دلَّ ذلك في اللغة العربية على تأكد النسبة، وإذا أدخلنا كلمة [إنَّ] على هذه الجملة فقلنا: إن زيدًا قام دلَّ ذلك على تأكد أشد، وإذا أبدلنا لفظ [قام] بقائم، دلَّ ذلك على زيادة ثالثة في التأكيد، وإذا أضفنا اللام إلى قائم فقلنا: [إن زيدًا لقائم] دلَّ ذلك على زيادة رابعة في التأكيد، وإذا أردنا تعظيم التأكيد والمبالغة فيه أضفنا القسم فقلنا: [والله إن زيدًا لقائم]، وإذا زدنا إحدى أدوات الحصر وقلنا [إنما زيد قائم] أو قلنا [إنما قائم زيد] تبدّل المعنى وأصبح ناظرًا إلى إفادة النسبة وإلى حصر قلب، وحصر إفراد.

فلو فرض أن أجنبيًا عن لغتنا عرف معنى زيد ومعنى قام، ثم سمع تراكيب هذه الجملة من أربعة أشخاص، فسمع كل واحد منهم ينطق بتركيب غير التركيب الذي سمعه من الآخر، لم يفهم من أحدها غير ما يفهمه من الآخر، في حين أن العارف بأسرار اللغة العربية يعرف الفرق، ويحسّ بما يقصده كل واحد ممن تكلم بها.

وإذا تجاوزنا هذه المراحل البدائية إلى مراحل أرفع وأسمى، وجدنا في لغتنا حقيقة ومجازًا، واستعارة وكناية وإسنادًا حقيقيًا وإسنادًا مجازيًا وقصر قلب وقصر إفراد.. الخ.

ووجدنا كل تركيب من هذه التراكيب يحمل معنى لا يحمله الآخر، ووجدنا المفردات قاصرة عن تأدية كل القصود.

فإذا عرف الغريب عن لغتنا معنى مفرداتها المسماة بالمعاني الأولية، كيف يستطيع أن يفهم المعاني الثانوية التي تختلف باختلاف التراكيب، فلو سمع قائلاً يقول: فلان كثير الرماد، لم يخطر في باله أكثر من كونه يجمع الرماد، ومن أنه إذا كان الرماد في منزله كان قذرًا، مع أن هذا التركيب في لغتنا كناية عن المبالغة في الكرم التي يدّعي المتكلم بها وجود شاهد يشهد بكرم ممدوحه، وهو الرماد، وأين هذا من ذاك!

 وقد اختلف العلماء في أن مثل هذا التعبير هل يصح بالنسبة للكريم الذي يهب النقود والمواشي وسائر الأعيان ولا يستعمل الطبخ أو لا يحسنه؟

 ويعجبني ما حكي من أن شاعرًا عراقيًا مدح محمد شاه بقصيدة مطلعها:

أنخ المطي فهذه طهران
 

 

هي جنة ومحمد سلطان
 

فلما أنشده إياها أو أنشد هذا المقطع، سأل الشاه وزيره أو المترجم ماذا قال؟ فقال له باللغة الفارسية: كفت بشن خر ابن تهران، فغضب الشاه وأمر بطرده، لأن لفظ [بشن] بمعنى اقعد، ومعنى [خر] الحمار، ونتيجة هذا إقعاد الحمار في طهران.

ولا ريب أن هذا ذم، وأنه لا يخاطب به الملوك، وأن غضب الشاه في محله، على حين أن الذي يريده الشاعر ويؤديه هذا المصراع من أرفع المعاني وأسماها.

إن هذا الشاعر جرَّد من نفسه شخصًا، والتجريد باب من أبواب البلاغة في لغتنا، ثم نظر إليه فرآه قد أتعب راحلته في الأسفار في طلب المعاش والسعة والاستقرار، ثم رآه وقد انتهى به السير إلى طهران عاصمة الملك، فأمره بأن ينيخ راحلته ويرتاح من أسفاره وأتعابه، وهذا في لغتا كناية عن بلوغ النهاية والفوز بأقصى الغاية، فهو نظير قول القائل:

فألقت عصاها واستقر بها النوى
 

 

كما قـرَّ عينًا بالإيـاب المسافر
 

ولا سيما بعد استعارة لفظ [الجنة] إلى طهران، أو إدعاء كونها هي، ولا ريب أن الجنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وليس فيها تعب ولا نصب.

ومن المشهورات أن كلام العرب مبني على الخفة والاختصار، فيوجِز المقاصد الكثيرة بعبارات يسيرة، وليكن هذا منها([i]).

ولا ريب أن المترجم لو كان يفهم أسرار اللغة العربية ويترجم هذا البيت على حقيقته -لأن ما قلناه هو الذي يقصده الشاعر- لأعجب الشاه ذلك، ثم أغدق عليه بالصِلات والهبات ولا أقل من حسن الضيافة بدلاً عن الطرد والإهانة.

وأخيرًا وليس آخرًا: إن غير العربي إذا فهم الكلمة المفردة لن يستطيع أن يفهم مشتقاتها، وإذا عرف مشتقاتها وأدرك الفوارق بينها وعرف الفرق بين المصدر واسم المصدر، وبين اسم الزمان والمكان والآلة، وبين الماضي والمضارع والأمر، وبين اسم الفاعل واسم المفعول، فلن يستطيع التفرقة بين الحقيقة والمجاز ولا الاستعارة والكناية وأضرابهن بدون دراسة وتعلم وإتقان.

يتبع=

ــــــــــــــــــــــــــ

([i]) ولأجل ما عرضناه في تفسير هذا البيت، يمكن تسرّب الشك في ترجمة كثير من الكتب العربية إلى اللغات الأجنبية، ولا سيما إذا استبدل اللفظ بمرادفه من تلك اللغة، وأوضح ما نختاره في باب الترجمة، هو أخذ الفكرة وتجسيدها في اللغة الأخرى، بما يُحَمِّلها صورة تشبه الصورة التي يحملها الأسلوب العربي، ومع ذلك لا أعتقد أنه يبلغ الغاية .