النبي لوط
(ع)
لقد شارك نبي الله لوط ابنَ خالته خليلَ الله إبراهيمَ
صبرَه على الأذى في جنب الله ونُفي معه من وطنه.
لقد ضاقت مدينته به فهاجر إلى قرية تجثو على ضفاف بحيرة
طَبَريّة من بلاد الشام، كان غريبًا فيها بكل معاني
الغربة.
إنَّ الداعية تتضاعف عليه مشقّةُ البلاغ إذا ما لم يكن
متجذّرًا في النسيج الإجتماعي لساحته.
لبث فيهم ثلاثين سنة، وإنّما كان نازلاً فيهم ولم يكن
منهم، ولا عشيرة له فيهم ولا قوم، دعاهم إلى الله تعالى
وإلى الإيمان به واتّباعه، ونهاهم عن الفواحش، وحَثَّهم
على طاعة الله فلم يجيبوه ولم يطيعوه().
وقد فاقت غربتُهُ الحدّ حينما اخترق القومُ بيتَه مِن خلال
امرأته التي كانت عينًا عليه وعونًا لأعدائه فهو لا يملك
في تلك البلدة المشؤومة غير بناته.
جاء اليوم الموعود، فتمثّلَ جمعٌ من ملائكة الله بهيئة
بشريّة رائقة، على أجمل حُلة وُفّادًا عليه، حالّين في
ضيافته، كان خوفه عليهم يفوق فرحتَه بلقائهم. أنزلهم داره
مُوَطّنا نفسه على البلاء الداهم.
سرعان ما تَسرَّبَ الخبرُ إلى القوم بفعل خيانة المرأة
{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ
كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}()
طوّقوا بيت النبوّة تتعالى صيحاتهم مطالبين بتسليم الصيد
الثمين للمصير المحتوم وبكُلِّ وقاحة.
لم يمتلك ما يؤثّر فيهم من سُبُلِ الإقناع، ولا ما يقوى به
على الدفاع؛ فالقوم لا يكادون يفقهون قولاً.
ومرّةً أخرى نرى في سنن الرساليين منطقًا يصدم الحسابات
العادية..إنّني كلما مررت بهذه الآية استوقفتني؛ لأقف معها
وأمامها طائشَ اللبِّ، شاردَ الذهن، مُقشَعرَّ الجلد، دامع
العين، إنّها روعةُ التضحية وقمّةُ الفداء، لها وقع
الصاعقة على كلِّ وجدانٍ نابه، وضمير حيّ..
{قَالَ
يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ
مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}).
لقد عرض عليهم بناته!! ()،
تضحية كبرى لا يفهم سُموَّها من هانت عنده المُثُل
العُليا.
عرض على أعدائه الأقذار مُصاهَرَتَهم له، مع كل ما فيها من
حزازة يهون أمامها حزُّ الشفارِ..
وليس لقائل أن يُخرِجَ المشهدَ هذا عن دائرة بحثنا
مُتذرّعًا بالنتيجة التي آلت إليها مجاري الأمور، فما
بَدَرَ من نبيِّ الله من عَرْضٍ واقتراح، وما دار بينه
وبين العاتين من حوار لم يكن عن علم بخاتمةِ المطاف، كما
أشارت إليه الآيات، ونصّت عليه الأخبار وجاءت به الآثار،
والكلام في علم الأنبياء يختلف عندنا عن الكلام في علم
النبي الخاتم وآله الأطهار (صلى لله عليه وآله) شمولاً
وإحاطةً وكليّةً وفعليّةً، ناهيك عن عدم إيمان المغالطين
بإحاطة العلم اللدني لدى المُظهَرين على غيب الله.
ثم إنَّ لحن الاستعطاف الصارخ في قوله:
{ولا تخزون في ضيفي..}
()
يحمل ذات اللون من الأسلوب.
فما هو موقف دعاة الغيرة الزائفة، وحمية الجاهلية من لوط
على نبينا وآله وعليه السلام؟!
وما هو تقييمُهُم لَهُ؟!
وكيف يُحاكمونه؟!
وبِمَ يَسِمونَهُ؟!
نبي الله يعقوب (ع) آية الوجد وعنوان الجوى
لقد واجه جناية مميّزة في أنحائها الثلاثة: الجناة
والجناية والمجني عليه.
أما الجناة فهم فلذات كبده، وفرع وجوده، والمُتقلّبين في
نعمه، وقد قابلوا حقَّه العظيم عليهم بأن سلبوه أعزَّ ما
لديه، وعرّضوا أنفسهم بذلك لمقت الله وسخطه.
وأما الجناية فهي من أبشع أصنافها غدر وختل، واستضعاف لطفل
صغير من غير ذنب، يجلّلها الكذب المفضوح، وتُغشّيها دموعُ
التماسيح.
وأما المجنيُّ عليه فهو أفضل أنجاله، ومعقد آماله،
والمصطفى من أهله وعياله، المتحلي بأبهى صفات الجمال،
وأروع خصال الكمال، وريث الصفوة من آبائه، وحُجّة الله من
بعده على عباده.
فما قابلها إلا بالصبر الجميل، لم يَشكُ بثه وحزنه لغير
ربه، حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، فلما انكشف أمرهم
وثابوا إلى رشدهم وأظهروا الندم على فعلهم صفح عنهم
مستغفرا لهم.
منمنمة رائعة الجمال انعكست على مرآة الذكر الحكيم:
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
}().
{قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا
أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ
حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}().
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى
عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ
عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا
تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ
حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا
أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ
اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * *يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا
مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ
اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}).
{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ
لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}).
كليم الله موسى (ع)
وله مع الصبر وكظم الغيظ ومجانبة المواجهة حكايات تمتدّ في
أدوار حياته الثلاث، ما قبل غيبته وبعد ظهوره في المرحلة
المصرية وما بعدها.
على ما فيه من قوة جسدية خارقة تجلّت في المرحلة الأولى
حيث وكز القبطي فقضى عليه، لكنه حينما وقع منه ذلك
{وجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ
يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}()
تجنّب المواجهة
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ
نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}()
فهاجر من موطنه مدّة مديدة حتى أذن الله له بالرجوع إليها
منذرًا ومخلِّصًا. وفي تلك الفترة كان شعبه يتعرض لألوان
التعذيب قتلاً وهتكًا واستعبادًا، فإن كان هذا سائغًا في
غيبته فما بالهم يقيمون على تلك الحال وهو بين ظهرانيهم
يظهر الآيات الواحدة تلوَ الأخرى والأقباط لا يجيبونه إلى
دعوته بل يبارزونه بقرار متجدد يستصدرونه من طاغيتهم
استفزازًا:
{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى
وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ
وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ
وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ
قَاهِرُونَ}()..
وهبّت العاصفة على بني إسرائيل بأعنف مما كانت عليه قبل
ظهور موسى، عاصفة من الجور لم تجد ردّة فعل من نبي الله
غير قوله لهم:
{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}()
ولمّا شكا إليه قومُهُ فظاعة ما نالهم فـ{قَالُوا
أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا
جِئْتَنَا}()
أكّد لهم قراره وأمره مخففًا عنهم بوعد الله لهم:
{قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ}()..
تُرى أين هي قوة موسى وشدة بأسه وشجاعته وإقدامه؟!
لِمَ لَمْ تُحرّكْه غَيرتُهُ ليدفعَ القتلَ عن أبناء قومه
والاستعباد عن بناتهم؟!
وأين ثعبانه المبين ليلقف القبطيين من أتباع فرعون؟!
وبعد سنين من الصبر والكظم انتهى به الأمر إلى قراره
التاريخي..
لم يكن القرار انتفاضة شاملة، ولا حربًا دائرة، ولا قصاصًا
تجريه ألوية الموت من قومه بالمجرمين من الأقباط.
كان القرار فرارًا عامًا وهجرة جماهيرية لشعب بأكمله
بقيادة كليم الله... وبأمر من الله.
فما هو موقف أصحابنا المغالطين المنكرين لأصالة الصبر وكظم
الغيظ في سنّة سيد الوصيين ؟!
تراهم يدعون إلى حذف هذه الآيات من كتاب الله الكريم، أم
يعمدون إلى اختراع آلية تحرّف الكلم عن مواضعه بمساعدة
إخوانهم الألسنيين؟!
وما كان من موسى من عظيم الصبر على حركات النفاق والشقاق
في أتباعه من الإسرائيليين يهون بجنبه صبره على أئمة الكفر
من القبطيين، ولولا ضيق المقام لأسهبنا في استعراضه وبيان
خصائصه وخفاياه، لكننا أوكلنا ذلك إلى ذوي العقول من
الباحثين.
النبي هارون (ع)
إنَّ الكلام عن هارون يشتمل على خصوصية تميّزه عن غيره من
الأنبياء والأوصياء.
فلقد حرص رسول الله (صلى لله عليه وآله) بأن يقيم تلازمًا
وتطابقًا بينه وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) وبوسائل
متعددة حكتها الأحاديث النبوية في الكتب المعتبرة عند
الفريقين، وهذا بحث يتطلب عقد دراسة مستقلة تفي بمقتضيات
هذه الظاهرة، نكتفي منها بسرد بعض محطاتها عسانا نوفق فيما
يأتي من الأيام إلى بسط القول فيها.
·
حديث المنزلة:
وقد تعدّدت طرقه حتى بلغت حدّ التواتر وتكثرت مصادره
مستوعبة كافة الفرق والنحل من أهل القبلة، واللافت فيه
تعاقب الوقائع وتكرر الصدور من أحكم الحكماء وسيد الأنبياء
(صلى لله عليه وآله).
وهو الجامع في هذه المطابقة من حيث إطلاق تنزيله لأمير
المؤمنين منزلة هارون من موسى وإرادة هذا الإطلاق بقرينة
استثناء النبوة.
·
حديث سدّ الأبواب:
عن سعد بن أبي وقاص، والبراء بن عازب ، وابن عباس ، وابن
عمر ، وحذيفة بن أسيد الغفاري ، قالوا كلهم: خرج رسول الله
(صلى لله عليه وآله)، إلى المسجد فقال: إنَّ الله أوحى إلى
نبيِّه موسى أن ابن لي مسجدًا طاهرًا لا يسكنه إلا أنت
وهارون ، وإنَّ الله أوحى إليَّ أنْ أبني مسجدًا طاهرًا لا
يسكنه إلا أنا وأخي علي ().
·
حديث دعائه
(ص) بدعاء موسى:
وفي المأثور من دعاء النبي (صلى لله عليه وآله): اللهم
إنَّ أخي موسى سألك فقال :
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}()،
فأوحيتَ إليه :
{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا
سُلْطَانًا})،
اللهم وإنّي عبدُكَ ورسولُكَ مُحمّدٌ ، فاشرحْ لي صدري،
ويَسّرْ لي أمري، واجعل لي وزيرًا من أهلي عَليًّا أخي..()
·
تسمية أبنائه
ما اشتهرت روايته عند العامة والخاصة، فبلغ حدّ الحقيقة
التاريخية من أن النبي (صلى لله عليه وآله) سمى أبناء أمير
المؤمنين الحسن والحسين والمحسن بأسماء أبناء هارون عليهم
السلام: شبر وشبير ومشبر().
إنَّ هذه المحطات وغيرها كرّست التلازم بين نبي الله هارون
وولي الله الأعظم علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما
تمهيدًا للمرحلة التي تكتمل فيه هذه الملازمة وذلك التطابق
بالموقف الهاروني لأمير المؤمنين (عليه السلام).
إنَّ هارون (عليه السلام) شارك أخاه موسى في مواقفه
الصابرة الكاظمة كلّها ولم يكن مستقلاً في شيء منها، فلقد
كان فيها الوزير التابع والأخ المعاضد فحسب.
ومن ثمَّ فمن أراد أن يقرأ هارون كحلقة بارزة في سلسلة
الأنبياء بسماته المميزة له عن غيره في طبيعة أداء دوره
ليتبين الدلالة الترميزية الناتجة عن تنزيل شخصية أمير
المؤمنين (عليه السلام) منزلته، والقرن الأكيد بين
الشخصيتين لا يمكنه أن يكتفي بالدور الأول التابع لهارون
على نبينا وآله وعليه السلام، بل لا بد من ملاحظة تكميل
الصورة بالنظر إلى موقف بارز تشخصت فيه شخصيته..
موقف انفرد به هارون إذ خلي بينه وبين أُمّة أخيه موسى على
نبينا وآله وعليهما السلام، إننا نرى ما نلتمسه ونتلمسه في
نَصّين من آي الذكر الحكيم وبوضوح تام يتلخص في واقعة
واحدة صورت لنا بلسانين:
الأول:
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا
بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي
وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}).
{لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا
قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ
أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ
أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ
الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا
تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}().
الثاني:
{قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا
بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}().
وخلاصة الصورة تُختصر بالنقاط التالية:
·
خلافة هارون لموسى على قومه، وفيها إعطاؤه كافة الصلاحيات
التي يتمتع بها موسى لمحل مفاد الخلافة التي هي قيام
الخليفة مقام المستخلِف في كافة الشؤون إلا ما خرج
بالدليل.
·
الإشعار بوجود تيار مفسد قد يستغل فرصة غياب المستخلِف
بممارسة الضغط على الخليفة الذي يمثل السدّ البديل أمام
مشروع الفساد.
·
ردة فعل موسى على حركة الانحراف في قومه مستعملاً فيها لغة
اللسان والجسد معًا؛ لبيان مدى فظاعة الخطوة التي قام بها
أرباب جبهة النفاق، فلم يكتف بالتقريع اللفظي حتى شفّعه
بإلقاء الألواح وهو كتاب الله، والأخذ برأس أخيه وهو نبي
الله، وما قد يلاحظ من عنف نسبي في التعبير الجسدي يعود
إلى الطبيعة الإسرائيلية العنيفة
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ
قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}().
·
لم يكن في ذلك توهينٌ للكتاب، ولا للنبي، بل كان صريحًا
بالاحتجاج الصارخ لبيان أنَّ ما جرى لم يكن حدثًا عاديًّا
آنيًّا يمكن تناسيه، والتغاضي عنه، إنها حكاية توصيفيّةٌ
ترميزيّةٌ لإظهار شناعة فعلهم الذي يُمثّلُ نبذَ كتاب الله
ووليّه، وأن ما قاموا به في فتنة السامريّ تهديد لضمانة
بقاء أمتهم حيث لا يجدي معه رسول ولا رسالة، ثم فيه جلب
الأنظار لما يدلي به هارون من حُجّة كاشفةٍ عن فحوى موقفه
الذي قد يعدّ موقفًا مَرنًا من تلك الحركة الانحرافية.
·
لقد ذكر هارونُ (عليه السلام) لموقفه
عللاً ثلاث:
- استضعاف الأمة له لعدم وجود القاعدة الواعية التي يمكنه
الارتكازُ عليها في مواجهةِ الحركة الانحرافيّة.
- الخوف من القتل العبثي الذي لا تترتب عليه أية ثمرة
رسالية وهو ما لا يرضى به الله تعالى ولا العقل ولا
العقلاء.
- الخوف من تَمزّق الأمة الآيل إلى انتفاء المجتمع الذي
يُمثّلُ الظرفَ والبيئةَ المطلوبةَ للحفاظ على الحق
بالمحافظة على أهله ولو بالحدِّ الأدنى؛ فإنَّ حركة
الانحرافِ مهما تَعاظمَ أثرُها في المجتمع الإيمانيِّ،
بحيث تَغلّبت على الواجهةِ الرسميةِ والجوّ العام لذلك
المجتمع، إلا أنه سيبقى للحقِّ مجالُهُ فاعلاً مُفعّلاً في
متن ذلك المجتمع، فيُحفظُ الُّلبابُ وسطَ تلك القشور،
ويدّخر لطلابه من الأجيال الصاعدة.
أما لو تفتَّتت الأمّةُ، واضمحلَّ وجودُها من أصله، فإنَّ
ذلك سيودي بما تحتفظ به من القلّة القليلة التي تُشكّل
مستودعًا للرسالة بكل ما تحويه.
وانطلاقًا من هذه العلل بإمكان اللبيب أن يستشفّ المشهد
الأخير الذي به تتحقّق تمامُ المُطابقة بين هارونَ أمة
موسى وهارونَ أمة محمد (صلى لله عليه وآله).
وقد ورد الخبر فيها عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث
قال: إن رسول الله (صلى لله عليه وآله) أوعز إليَّ قبل
وفاته وقال لي: يا أبا الحسن إنَّ الأمّةَ ستغدرُ بك من
بعدي، وتنقضُّ فيك عهدي، وإنّكَ مِنّي بمنزلة هارون من
موسى، وإنَّ الأمَّةَ من بعدي كهارون ومن اتبعه والسامري
ومن اتبعه..().
وأكّدها أمير المؤمنين (عليه السلام) مجاهرًا بها أمامَ
الملأ حينما خرجوا به مُلبّبًا حيث وقف عند قبر النبي (صلى
لله عليه وآله) قائلا: يا
{ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا
يَقْتُلُونَنِي)}).
وله فيها وفي غيرها من مواقف الأنبياء احتجاج جامع()،
سنأتي به في الحلقة المقبلة بإذن الله.
ونعود لنقول للمستشكلين المغالطين:
ما رأيكم بهارونَ وموقفه، إذ آثر النكير اللفظي ولم ينقضَّ
على الجبهة الانقلابية في أمّة أخيه موسى.
وما رأيكم بالعلل التي نصَّ عليها الكتاب كحجّةٍ شرعيةٍ
وعُقلائيةٍ لموقفه؟!
فإن كنتم بهذه الآيات من الموقنين، وبما جاءت به مصدّقين،
ولهارونَ مُنزِّهين، ولفعله مُحَسّنين، فلِمَ ساغ لديكم
هذا الموقف الهاروني من هارونَ موسى، وأبيتم صدورَه من
هارونَ محمد (صلى لله عليه وآله)؟!
ألا ترَوْن أن حكم الأمثال واحدٌ؟!
أليس الربّ واحدًا، والمرسلُ واحدًا، والمنصب واحدًا،
والمقصدُ واحدًا؟!
أم أنكم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فتأخذون ما يحلو
لكم بتناسبه مع عصبياتكم ونفسيّاتكم وتطلعاتكم، وما تعيهِ
أوعيتُكُم وتذرون ما تَقصُر عنه أفهامُكم وتَمُجُّهُ
طِباعُكُم.
وكيف لكم أن تحاكموا مشيئة الباري وحكمة أوليائه بعقول
قاصرة وأفهام فاترة فما لكم كيف تحكمون؟!
فليتدبر من يحترم عقله فيما تقدم منّا في هذا المقال لنكمل
معًا في الحلقة القادمة -بإذن الله تعالى- ما بدأنا به من
تجانس موقف صاحب العنوان لسنن الأنبياء والأولياء، متوّجةً
بسُنّة خاتم النبيين وأشرف الخلق أجمعين عليه وآله أزكى
صلوات المصلّين.
(انتهى)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
|