السنة الحادية عشرة / العدد السابع والعشرون / حزيران  2015م / ربيع أول  1436هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

مصر بين خلافة الإمام علي (ع)

وولاية معاوية

د. طارق شمس

 

 

مقدمة

مع مقتل الخليفة عثمان بن عفان، ومبايعة الإمام علي (عليه السلام) بالخلافة، تزعَّم معاوية بن أبي سفيان، الموجود في الشام، الدعوة إلى الأخذ بثأر الخليفة المقتول، وقيادة المعارضة التي انقلبت على الإمام علي (عليه السلام) ورفضت مبايعته.

وأول مشكلة اعترضت الإمام عليًا (عليه السلام) كانت الولاة الذين عيّنهم الخليفة عثمان، والمطالبين بالأخذ بثأر عثمان، وهم من أطلق عليهم اسم "العثمانية"([1]).

فعمد الإمام (عليه السلام) إلى تغيير هؤلاء الولاة، وتعيين عماله على الأمصار، ومنهم قيس بن سعد بن عبادة على مصر، وبايع أهل مصر الإمام عليًا (عليه السلام)، في حين امتنعت الشام عليه([2]).

عندها قرر الإمام (عليه السلام) غزو الشام وإخماد معارضة معاوية قبل تفاقمها، إلا أن عدة أحداث منعته من ذلك، كان أبرزها وقعة الجمل عام 36هـ/ 656م.

واللافت كما يقول د. عصام شبارو: [كانت عائشة أم المؤمنين تندد بسياسة عثمان بن عفان، وبعد عودتها من الحج كانت أول من طالبت بدم عثمان بعد قتله...]([3]).

ومع خروج الإمام علي (عليه السلام) من موقعة الجمل منتصرًا، كانت موقعة صفين عام (37هـ/ 657م)، حيث إن معاوية رفض مبايعة الإمام (عليه السلام) وأخذ يؤلّب أهل الشام عليه، تحت ذريعة المطالبة بدم الخليفة عثمان، [وكان هدفه حكم بلاد الشام مستقلاً ثم الحصول على الخلافة نفسها لحصرها في البيت الأموي، لذلك اعتبر نفسه الخليفة بعد أن بايعه كور الشام جميعًا...، ثم ذهب معاوية بعيدًا في تدعيم مركزه، عندما استعان بعمرو بن العاص وهو أحد الأمراء الدهاة بعد أن أغراه بولاية مصر]([4]).

وكان ما كان من رفع المصاحف، وأمر التحكيم...

مصر وأهميتها الجغرافية والاقتصادية:

هنا بعض ما أورده عدد من الجغرافيين في أهمية مصر اقتصاديًا:

- قدامة بن جعفر (ت320 هـ/932 م): [أعمال مصر والإسكندرية وكورها... ما ينسب إلى أرض الصعيد... وارتفاع هذه الأعمال من العين ألفا ألف وخمس مائة ألف دينار]([5]).

- ابن حوقل (ت367 هـ/977م): [مصر اسم للإقليم... وهو قديم جليل عظيم، جسيم العائدة في سالف الزمان... ووجدت بخط أبي النمر الوراق في أخبار أبي الحسين الخصيبي قال: حدثني... لو عمرت مصر كلها لوفت بأعمال الدنيا... تحتاج مصر إلى ثمانية وعشرين ألف ألف فدان، وإنما يعمر منها ألف ألف فدان، قال... إنه كان يتقلد الدواوين بالعراق، يريد ديوان المشرق والمغرب، قال: ولم أبت قط ليلة من الليالي وعليّ عمل أو بقية منه، وتقلدت مصر فكنت ربما بتُّ وقد بقي عليّ شيء من العمل فأستتمه إذا أصبحت، فقال: وقال له أبو خازم القاضي: جبا عمرو ابن العاص مصر لعمر بن الخطاب أثني عشر ألف ألف دينار، فصرفه عنها عثمان بعبد الله بن أبي سرح فجباها أربعة عشر ألف ألف دينار... وكان خراجها على عهده (المأمون أو المعتصم)... أربعة آلاف ألف دينار، ومائتي ألف وسبعة وخمسين ألف دينار]([6]).

- المقدسي (ت380 هـ/990م) في حديثه عن مصر: [... أحد جناحي الدنيا، ومفاخره فلا تحصى، مصره قبّة الإسلام ونهره أجل الأنهار، وبخيراته تعمر الحجاز، وبأهله يبهج موسم الحاج، وبرّه يعُم الشرق والغرب، قد وضعه الله بين البحرين، وأعلى ذكره في الخافقين، حسبك أن الشام على جلالتها رستاقه، والحجاز مع أهلها عياله، وقيل إنه هو الربوة، ونهره يجري عسلاً في الجنة...]([7]).

- اليعقوبي: [واستقر خارج مصر في أيام معاوية على ثلاثة آلاف ألف دينار...]([8]).

 - لما أتم عمرو بن العاص فتح مصر، بعث إلى الخليفة عمر بن الخطاب كتابًا يصف له فيه مصر: [مصر تربة غبراء (سهلة الإنبات) وشجرة خضراء (كثيرة الشجر الأخضر) طولها شهر وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر ميمون الغدوات مبارك الروحات، يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان تظهر به عيون الأرض وينابيعها...] ([9]).

الإمام علي (عليه السلام) ومصر

مع بيعة الإمام علي (عليه السلام) كخليفة على المسلمين، نصّب على مصر واليًا من قبله هو قيس بن سعد، وأمره بالإكثار من الجنود، فدخلها قيس مع سبعة من أصحابه، وأعلمهم بأنه أميرهم من قِبل الإمام علي (عليه السلام)، فبايعه أهل مصر، إلا بعض قراها التي كان أهلها يدعون إلى الطلب بدم الخليفة عثمان بن عفان، ومن هؤلاء: يزيد بن الحرث ومسلمة بن مخلد، فهادنهم قيس([10]).

وكان معاوية بالشام، فخشي أن يهاجمه الإمام علي (عليه السلام) في أهل العراق، وواليه على مصر قيس في أهل مصر، عندها كتب إلى قيس يحثه على أن ينقلب على الإمام علي (عليه السلام)، و[يعظم قتل عثمان ويطوّقه عليًا، ويحضّه على البراءة من ذلك ومتابعته على أمره، على أن يوليه العراقين إذا ظفر ولا يعزله، يولّي من أراد من أهله الحجاز كذلك ويعطيه ما يشاء من الأموال...]([11]).

فردّ قيس عليه في محاولة منه لمنعه عن مصر: [... وأنا كافٍ عنك فلا يأتيك شيء من قِبلي تكرهه حتى نرى وترى...]، ثم كتب إليه معاوية: [إني لم أرك تدنو فأعدّك سلمًا ولا تتباعد فأعدّك حربًا، وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وأعنّة الخيل والسلام].

إلا أن قيسًا كتب له ردًا، فيه من [الشتم والتصريح بفضل علي والوعيد]([12]).

ينقل ابن خلدون، أنه بعد أن آيس معاوية من قيس، ولم يتمكن من استمالته عندها أشاع في الناس "أن قيسًا شيعة له تأتينا كتبه ورسله ونصائحه، وقد ترون ما فعل بإخوانكم القائمين بثأر عثمان وهو يجري عليهم من الأعطية والأرزاق"، في محاولة منه للإيقاع بين الإمام علي (عليه السلام) وقيس.

كلام معاوية هذا، وصل إلى الإمام علي (عليه السلام)، عبر عيون له في الشام، وفاوض فيه -أي في قيس- الحسن والحسين (عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر، فقال له عبد الله حسبما أورد ابن خلدون: [دع ما يريبك إلى ما لا يريبك واعزله عن مصر]، وكان قيس قد امتنع عن قتال من طالب بدم عثمان في مصر، كما ورد، فقال ابن جعفر للإمام علي (عليه السلام): [مره بقتالهم خشية أن تكون هذه ممالأة]. فكتب الإمام علي (عليه السلام) إلى قيس يأمره بذلك، إلا أن قيسًا لم يرَ ذلك رأيًا وقال: [متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوّك، وهم الآن معتزلون والرأي تركهم].

عندها اقترح ابن جعفر بأن يعزل قيسًا عن مصر، وأن يوليها محمد بن أبي بكر (وكان أخاه لأمه)([13]).

أما ابن الأثير، فيورد أن معاوية اختلق كتابًا وصله من قيس بن سعد، بعد أن لم يتمكن من أن يكسبه إلى جانبه ضد الإمام علي (عليه السلام)، وقد ورد في هذا الكتاب طلب قيس من معاوية المال والرجال([14]).

[فشاع في أهل الشام أن قيسًا قد بايع معاوية بن أبي سفيان، فسرّحت عيون علي بن أبي طالب إليه بذلك، فلما أتاه ذلك أعظمه وأكبره وتعجب له].

فدعا عبد الله بن جعفر والإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، [قال لهم علي: إني والله ما أصدّق بها على قيس، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، اعزله، فوالله لئن كان هذا حقًا لا يعتزل لك إن عزلته]([15]).

بناءً عليه، لا يمكننا أن نعتبر، أن الإمام عليًا (عليه السلام) قد صدّق أخبارًا كاذبة أتته من بلاد الشام، عن واليه على مصر، وعلى الأرجح أن سبب عزل الإمام علي (عليه السلام) لقيس بن سعد، يعود إلى أن هذا الأخير عندما بعث إلى الإمام علي (عليه السلام) عن خبر الذين اعتزلوا عن بيعة الأمير (عليه السلام)، وهم يزيد بن الحرث ومسلمة بن مخلد ومن معهما، بعث الإمام (عليه السلام) إلى قيس بكتاب يطالبه فيه بقتالهم إن لم يبايعوا، [أما بعد، فَسِر إلى القوم الذين ذكرت، فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون وإلا فناجزهم إن شاء الله].

إلا أن قيسًا أبى ذلك قائلاً من خلال كتابه للإمام (عليه السلام) [... فقد عجبتُ لأمرك، أتأمرني بقتال قوم كافّين عنك، مفرغيك لقتال عدوك، وإنك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوك، فأطعني يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإن الرأي تركهم والسلام]([16]).

عندها عزل الإمام علي (عليه السلام)، قيسًا، عن مصر وولاها محمد بن أبي بكر. وسنرى كيف أن بقاء هؤلاء المرتدين كان من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها قيس، وسلمت مصر إلى معاوية فيما بعد.

مع وصول محمد بن أبي بكر إلى مصر أرسل بالعساكر لقتال "العثمانية" ممن رفض مبايعة الإمام علي (عليه السلام)، يقول ابن خلدون: [إن محمد بن أبي بكر بعث إليهم العساكر من الفسطاط مع ابن مضاهم، فهزموه وقتلوه، واضطربت الفتنة بمصر على محمد بن أبي بكر]([17])، مما فتح المجال أمام معاوية ليحتل مصر، حيث إن هذا الأخير كان قد اغتنم فرصة الفوضى ليشتري بماله عددًا كبيرًا من رؤوس مصر، واستمالتهم إليه.

وقد أورد ابن الأثير في ذلك، أن معاوية قال قبل إرسال الجيش إلى مصر: [أرى أن نكاتب من بها من شيعتنا فنمنيهم ونأمرهم بالثبات، ونكاتب من بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا ونمنيهم شكرنا ونخوفهم حربنا، فإن كان ما أردنا بغير قتال فذاك الذي أردنا وإلا كان حربهم من بعد ذلك]([18]).

كما كتب معاوية إلى العثمانية وعلى رأسهم مسلمة بن مخلّد ومعاوية بن خديج [يقويهما ويمنيهما الأماني الطيبة، فكتبا إليه يطلبان المدد]([19]).

أهمية مصر عند معاوية:

يورد الطبري: [قال أبو مخنف:... إن أهل الشام لما انصرفوا من صفين كانوا ينتظرون ما يأتي به الحكمان، فلما انصرفا وتفرقا بايع أهل الشام معاوية بالخلافة، ولم يزدادوا إلا قوة، واختلف الناس بالعراق على علي (عليه السلام)، فما كان لمعاوية همٌّ إلا "مصر" وكان لأهلها هائبًا خائفًا، لقربهم منه، وشدتهم على من كان على رأي عثمان، وقد كان على ذلك عَلِمَ أن بها قومًا قد ساءهم قتل عثمان، وخالفوا عليًّا، وكان معاوية يرجو أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي، لِعِظم خراجها، قال: فدعا معاوية من كان معه من قريش.. ومن غيرهم... فقال لهم: أتدرون لِمَ دعوتكم؟ إني قد دعوتكم لأمر مهم أحب أن يكون الله قد أعان عليه... فقال عمرو بن العاص: أرى والله أمر هذه البلاد الكثير خراجها والكثير عددها وعدد أهلها، أهمك أمرُها، فدعوتنا إذًا لتسألنا عن رأينا في ذلك، فإن كنت لذلك دعوتنا، وله جمعتنا، فاعزم وأقدم، ونِعم الرأي رأيت! ففي افتتاحها عِزُّكَ وعِز أصحابك، وكبت عدوك وذل أهل الخلاف عليك]([20]).

ولما كان معاوية يدرك رغبة عمرو بن العاص بأن يعود واليًا على مصر، ولكونه كان عليها من قبل فقد ولاه على الجيش الأموي الذي وجهه إلى مصر عام 38 هـ/658م، والتقوا مع محمد بن أبي بكر، في موضع يطلق عليه "المسناة".

يورد المسعودي عن هذه الموقعة بين محمد أبي بكر وعمرو بن العاص: [فاقتتلوا، فانهزم محمد، لإسلام أصحابه إياه وتركهم له، وصار إلى موضع بمصر، فاختفى فيه، فأحيط بالدار، فخرج إليهم محمد ومن معه من أصحابه، فقاتلهم حتى قتل، فأخذه معاوية بن خديج وعمرو بن العاص وغيرهما، فجعلوه في جلد حمار وأضرموه بالنار، وذلك بموضع في مصر، يقال له: "كوم شريك"، وقيل: إنه فعل به ذلك، وبه شيء من الحياة]([21]).

ومع وصول خبر مقتل محمد بن أبي بكر إلى معاوية وهو في الشام، [فأظهر الفرح والسرور، وبلغ عليًا قتل محمد وسرور معاوية فقال: جزعنا عليه على قدر سرورهم فما جزعت على هالك منذ دخلت هذه الحروب جزعي عليه، كان لي ربيبًا، وكنتُ أعدُّه ولدًا، وكان بي برًا، وكان ابن أخي([22])، فعلى مثل هذا نحزن وعند الله نحتسبه"([23]).

أما ابن خلدون فيورد أن أصحاب محمد بن أبي بكر افترقوا عنه وفرّوا، ومع القبض عليه من قبل ابن خديج (أحد قادة معاوية) جاء به إلى الفسطاط، وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مع عمرو بن العاص، وهو شقيق محمد بن أبي بكر، فطلب من عمرو بن العاص أن يبعث إلى ابن خديج في البقاء عليه، فأبى عمرو بن العاص، [وطلب محمد الماء فمنعه ابن خديج.. ثم أحرقه في جوف حمار بعد أن لعنه ودعا عليه وعلى معاوية وعمرو (ابن العاص)].

يضيف ابن خلدون: [وكانت عائشة تقنت في الصلاة بالدعاء على قتلته (شقيقها محمد)]([24]).

أما ابن الأثير فيقول: [فلما بلغ ذلك عائشة (قتل شقيقها) جزعت عليه جزعًا شديدًا، وقنتت في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو، وأخذت عيال محمد إليها...، ولم تأكل من ذلك الوقت شِواء حتى توفيت]([25]).

خطبة الإمام علي (ع) في الكوفة بعد مقتل محمد بن أبي بكر:

أورد ابن الأثير خطبة الإمام علي (عليه السلام) بعد أن جاءه خبر مقتل محمد بن أبي بكر، ومما جاء فيها: [ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلمة الذين صدوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عِوجًا، ألا وإن محمد بن أبي بكر استشهد فعند الله نحتسبه، أما والله إن كان كما علمتُ لممن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ويبغض شكل الفاجر ويحب هدى المؤمن، إني والله ما ألوم نفسي على تقصير، وإني لمقاساة الحروب لجدير خبير، وإني لأتقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم وأقوم فيكم بالرأي المصيب واستصرخكم معلنًا وأناديكم نداء المستغيث فلا تسمعون لي قولاً ولا تُطيعون لي أمرًا حتى تصير بي الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر، ولا تنقض (تنفض عند الطبري) بكم الأوتار، دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة فتجرجرتم جرجرة الجمل الأشدق، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليست له نية في جهاد العدو ولا اكتساب الأجر، ثم خرج إليّ منكم جُنيد متذانب كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون، فأفٍّ لكم. ثم نزل]([26]).

مالك الأشتر ومصر:

يورد ابن الأثير أنه لما بلغ الإمام عليًا (عليه السلام)، أن مصر قد سادتها الفوضى، وأنها بدأت تنقلب على محمد بن أبي بكر، قال: [ما لمصر إلا أحد الرجلين، صاحبنا الذي عزلنا، يعني قيسًا، أو الأشتر]. وكان الأشتر واليًا من قِبَل الإمام علي (عليه السلام) على الجزيرة الفراتية، [فلما بلغ عليًا أمر مصر كتب إلى الأشتر وهو بنصيبين يستدعيه، فحضر عنده، فاخبره خبر أهل مصر وقال: ليس لها غيرك فاخرج إليها، فإني لو لم أوصك اكتفيت برأيك، واستعن بالله واخلط الشدة باللين، وأرفق ما كان الرفق أبلغ، وتشدّد حين لا يغني إلا الشدة].

ووصلت إلى معاوية، عبر عيونه، أخبار خروج الأشتر إلى مصر، [فعظم عليه، وكان قد طمع في مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر، فبعث معاوية إلى المقدّم على أهل الخراج بالقلزم وقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجًا ما بقيتُ...]، وأقام المقدم في القلزم ينتظر قدوم الأشتر، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول، فنزل عنده، فاتاه بطعام، فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سمًّا فسقاه إياه فلما شربه مات]([27]).

يضيف ابن الأثير عن معاوية: [وأقبل معاوية يقول لأهل الشام: إن عليًا قد وجّه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه، فكانوا يدعون الله عليه كل يوم، وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلَك الأشتر، فقام معاوية خطيبًا ثم قال: أما بعد فإنه كانت لعليّ يمينان فقطعتُ إحداهما بصفين، يعني عمار بن ياسر، وقطعتُ الأخرى اليوم، يعني الأشتر].

ولما بلغ الإمام عليًا (عليه السلام) مقتل الأشتر قال: [إنّا لله وإنا إليه راجعون، مالك وما مالك وهل موجود مثل ذلك، لو كان من حديد لكان قيدًا أو من حجر لكان صلدًا، على مثله فلتبكِ البواكي].

يضيف ابن الأثير، أن الإمام عليًا (عليه السلام) بعث بمالك الأشتر قبل شهادة محمد بن أبي بكر ليوليه مكانه ويمنع مصر من السقوط بيد معاوية، وأنه في نفس الوقت أرسل بكتاب إلى محمد بن أبي بكر يدعوه فيه للثبات، ومما جاء فيه: [... اصبر لعدوك وسمّر للحرب {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ([28]) وأكثر ذكر الله والاستعانة به والخوف منه يكفك ما أهمّك ويُعنك على ما ولاك]([29]).

أما المسعودي فيذكر أن الإمام عليًا (عليه السلام) ولّى الأشتر مصر بعد مهلك محمد بن أبي بكر، [وأنفذه إليها في جيش، فلما بلغ ذلك معاوية دسّ إلى دهقان كان بالعريش، فأرغبه، وقال: أترك خراجك عشرين سنة، واحتل للأشتر بالسم في طعامه، فلما نزل الأشتر بالعريش سأل الدهقان أيُّ الطعام والشراب أحبُّ إليه؟ قيل له: العسل، فأهدى له عسلاً، وقال: إن من أمره وشأنه كذا وكذا، ووصفه للأشتر، وكان الأشتر صائمًا، فتناول منه شربة، فما استقرت في جوفه حتى تلف... وبلغ ذلك معاوية، فقال: إن لله جندًا من العسل]([30]).

نهاية عمرو بن العاص:

كان عمرو بن العاص قد عُزل عن مصر في خلافة عثمان بن عفان، إلا أنه كان يسعى لتولّيها مرة ثانية، وهو انضم إلى معاوية طالبًا بثأر عثمان، مع أنه كان يكره عثمان [كرهًا شديدًا لأنه عزله عن مصر...]([31]).

ومع تقدم الجيش الأموي باتجاه مصر، كان عمرو على رأسه، عام (38هـ/658م)، حيث أقرّه معاوية واليًا على مصر، على أن يعطي عطاء الجند، وما بقي فله، وتفرد في حكمها تابعًا للخليفة الأموي معاوية في الشام.

إلا أن هذا الأخير كان يخشى من خروج عمرو عليه، فبعث إليه بكتاب يهدف من خلاله تقييد سلطته، ليأمن خروجه عن طاعته، وورد في كتاب معاوية عبارة: [على أن لا ينقض شرطٌ طاعة]، فرد عمر بن العاص بعد أن أدرك أهداف معاوية بكتاب: [على أن لا تنقض طاعةٌ شرطًا]، وهو بذلك يقلب الأمور لمصلحته، ووقع الخلاف بينهما([32]).

يذكر المؤرخ المصري حسن إبراهيم حسن: [لما صار الأمر كله في يدي معاوية، استكثر طعمة مصر لعمرو ما عاش، ورأى عمرو أن الأمر كله قد صلح به وبتدبيره وبعنايته وسعيه فيه، وظن أن معاوية سيزيده الشام على مصر، فلم يفعل معاوية، فتنكّر له عمرو، فاختلفا وتغالظا، وظن الناس أنه لا يجتمع أمرهما، ولكن قبل أن يتفاقم الخطب وتستعر نار الخلاف استعارًا تدخّل بعض المسلمين في الأمر وأصلحوا بين الرجلين (وإن كان هذا الصلح ظاهريًا) على أن يُكتب بينهما كتاب بمثابة ضمان لكل منهما خلاصته:

- أن تكون لعمرو ولاية مصر سبع سنين.

- وأن على عمرو السمع والطاعة لمعاوية.

إلا أن هذا التعاهد والتوارد بينهما لم يستمر طويلاً، فهو [اتفاق ظاهره المحبة وباطنه يشعر بالدهاء، وأن عَمْرًا لم يبايع معاوية حبًّا به أو مودة له، بل طلبًا لمصر ورغبة في استرجاع ما كان عليها من سلطان، ولم يكن معاوية أيضًا بأقل بغضًا منه].

وهذه إحدى القصص التي تظهر الجفاء الذي كان بينهما:

يروى أن معاوية قال لجلساء عنده: [ما أعجب الأشياء؟ فقال يزيد: أعجب الأشياء هذا السحاب الراكد بين السماء والأرض لا يدعمه شيء من تحته ولا هو منوط بشيء من فوقه.

قال آخر: حظ يناله جاهل وحرمان يناله عاقل.

قال آخر: أعجب الأشياء ما لم يُرَ مثله.

قال عمرو بن العاص: أعجب الأشياء أن المبطل يغلب المحق (يقصد معاوية وعليًا).

فقال معاوية: بل أعجب الأشياء أن يعطى الإنسان ما لا يستحق إذا كان لا يخاف (يقصد عَمْرًا ومصر التي أصبح واليًا عليها)]([33]).

وبعد عشر سنوات من ولايته على مصر، توفي عمرو بن العاص عام 43هـ/663م، وله من العمر تسعون سنة، وقبل وفاته قال: [اللهم لا براءة لي فأعتذر، ولا قوة لي فأنتصر، أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فركبنا، اللهم هذه يدي إلى ذقني، ثم قال: خذوا لي في الأرض خدًّا، وسنوا علي التراب سنًا، ثم وضع أصبعه في فيه حتى مات، وصلى عليه ابنه عبد الله يوم الفطر، فبدأ بالصلاة عليه قبل صلاة العيد، ثم صلى بالناس بعد ذلك صلاة العيد]([34]).

ينقل اليعقوبي، أن عمرو بن العاص قال لولده قبل وفاته: [... كأني بمعاوية قد حوى مالي وأساء فيكم خلافتي (...) فأقرّ معاوية ابنه عبد الله بن عمرو ثم استصفى مال عمرو، فكان أول من استصفى مال عامل، ولم يكن يموت لمعاوية عامل إلا شاطر ورثته ماله، فكان يكلم في ذلك، فيقول: هذه سنة سنّها عمر بن الخطاب، ثم عزل معاوية عبد الله بن عمرو، وولى أخاه عتبة بن أبي سفيان مصر]([35]).

يضيف اليعقوبي: [واستقر خراج مصر في أيام معاوية على ثلاثة آلاف ألف دينار، وكان عمرو بن العاص يحمل منها إليه الشيء اليسير، فلما مات عمرو حُمل المال إلى معاوية]([36]).

وكان ما يملكه عمرو هو [من العَيْنِ ثلثمائة وخمسة وعشرين ألف دينار، ومن الورق (الفضة) ألفي ألف درهم (2،000،000) وضيعته المعروفة بالرهط وقيمتها عشرة آلاف درهم، عدا الدور العديدة التي كان يملكها في كل من مصر ودمشق وبستان بالطائف]([37]).

هكذا يظهر معنا من خلال ما ورد التالي:

1- أن ولاية مصر كانت غنية وأن خراجها كان كبيرًا في حينه (ثلاثة آلاف ألف دينار)، وهو مبلغ كان يغطي العديد من النفقات التي كان يحتاجها معاوية في حربه مع الإمام علي (عليه السلام)، وفي تثبيت حكمه وشراء الذمم.

2- سيطرة الإمام علي (عليه السلام) على مصر، تعني محاصرة بلاد الشام، حيث يصبح معاوية بين فكي كماشة (العراق ومصر).

3- كان الإمام علي (عليه السلام) يدرك أهمية مصر وعمل جاهدًا للإبقاء عليها ضمن دولته، إلا أن أهل الكوفة ومعظم جيشه كانوا، كما ورد في خطبته (عليه السلام)، متذبذبين عن المشاركة في القتال وتلبية أوامر الإمام (عليه السلام). ويعيد المؤرخون ذلك إلى كثرة الحروب التي شاركوا فيها من قبل (الجمل-صفين-النهروان)، ويمكن أن نضيف إليها شراء معاوية لذمم البعض منهم.

4- أن عمرو بن العاص كان يقف في صف معاوية، فقط كي يحصل على ولاية مصر، وليس رغبة في الأخذ بثار الخليفة عثمان، وهو ما ظهر واضحًا في أكثر من موقف، ذكرنا بعضها.

5- كان معاوية يدرك مقاصد عمرو بن العاص، وهو استَمالَه إلى صفّه ليستفيد من دهائه من جهة، ولكونه يمثل ما يمثل من زعامة قريش، وأيضًا ليستعين به للسيطرة على مصر، لكونه كان واليًا عليها من قبل، فهو يعرفها ويعرف خباياها وسكانها.

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) عصام شبارو، تاريخ الدولة العربية الإسلامية، بيروت: دار الأمان، ط1، 1992، ص 317- 318.

([2]) المرجع نفسه، ص 319-320.

([3]) المرجع نفسه، ص 320.

([4]) المرجع نفسه، ص 323.

([5]) قدامة بن جعفر، كتاب الخراج وصنعة الكتابة، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط1، 1988، ص 67.

([6]) ابن حوقل، كتاب صورة الأرض، بيروت: مكتبة الحياة، 1992، ص 128-129.

([7]) المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1987، ص165.

([8]) اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، بيروت: دار صادر، د.ت، 2: 233.

([9]) حسن إبراهيم حسن، تاريخ عمرو بن العاص، مصر: مطبعة السعادة، ط1، 1922، ص168.

([10]) ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، بيروت: دار الفكر، 2000، 2: 623.

([11]) المصدر نفسه، 2: 623-624.

([12]) المصدر نفسه، 2: 624.

([13]) المصدر نفسه، 2: 624.

([14]) الطبري، تاريخه، بيروت: دار الفكر، 1998، ج5،ص 288.

([15]) المصدر نفسه، ج5، ص 288.

([16]) المصدر نفسه، ج 5، ص 289.

([17]) ابن خلدون، المصدر السابق، 2: 641.

([18]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط1، 1989، 2: 412.

([19]) حسن إبراهيم حسن، تاريخ عمرو بن العاص، المرجع السابق، ص 232.

([20]) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، بيروت: دار الفكر، ط1 1998، ج 6، ص33.

([21]) المسعودي، مروج الذهب، بيروت: دار الفكر، ط1، 2000، 2: 404.

([22]) وكان محمد بن ابي بكر أخا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لأمه.

([23]) المصدر نفسه.

([24]) ابن خلدون، المصدر السابق، 2: 642.

([25]) ابن الأثير، المصدر السابق، 2: 413.

([26]) المصدر نفسه، ج2: 414.

([27]) المصدر نفسه، 2: 410.

([28]) النحل، 125.

([29]) ابن الأثير، المصدر السابق، 2: 410 – 411.

([30]) المسعودي، المصدر السابق، 2: 404.

([31]) حسن إبراهيم حسن، تاريخ عمرو بن العاص، المرجع السابق، ص 232.

([32]) المرجع نفسه، ص 234.

([33]) المرجع نفسه، ص 236.

([34]) المسعودي، مروج الذهب، المصدر السابق، 3: 31.

([35]) اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، بيروت: دار صادر، د.ت، 2: 222.

([36]) المصدر نفسه، 2: 233.

([37]) حسن إبراهيم حسن، المرجع السابق، ص 242 – 243.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والعشرون