ولإثبات ذلك نقول: لو فرضنا أن الشكل الواقعي للورقة هو
المربع وعلى خلاف ما نراه من الاستدارة، فإن هذا الفرض لا
يخلو من أحد احتمالين:
1 - إما أن يكون هذا المربع من المربعات التي يمكن أن
نرسمها داخل الدائرة التي نراها .
2 - وإما أن يكون هذا المربع أكبر من المربعات التي يمكن
أن نرسمها داخل تلك الدائرة.
والاحتمال الأول يتضمن أن الامتداد الذي تمثّله صورة
الدائرة المحسوسة، هو أكبر من واقع الورقة، وذلك لأننا
افترضنا في هذا الاحتمال أن المربع الواقعي هو من المربعات
التي يمكن أن نرسمها داخل الدائرة التي نراها، فيكون
للدائرة المرئية امتداد أكبر من امتداد المربع الواقعي،
وهذا معناه أننا نرى من الامتداد شيئًا لا نواجهه. وهو أمر
ممكن لو كانت رؤيتنا غير موضوعية، ولكننا أثبتنا بقيمة
احتمالية كبيرة أن رؤيتنا موضوعية، فيكون من غير المحتمل
أن نرى شيئًا لا نواجهه، فيكون هذا الاحتمال الأول غير
صحيح.
أما الاحتمال الثاني، فإنه يتضمن أن جزءًا من المربع
الواقعي يقع خارج الدائرة التي نراها، وذلك لأننا افترضنا
في هذا الاحتمال أن المربع الواقعي أكبر من المربعات التي
يمكن أن نرسمها داخل الدائرة التي نراها، وعندها لا بد أن
يقع جزء من امتداد هذا المربع خارج تلك الدائرة، وهذا
معناه أننا لا نرى جزءًا مما نواجهه، وهو الجزء الواقع
خارج الدائرة، وهذا يصحّ أيضًا لو كانت رؤيتنا غير
موضوعية، ولكننا فرغنا عن كونها موضوعية، فلا بد أن نرى كل
ما نواجهه. فيكون هذا الاحتمال باطلاً أيضًا.
فإذا بطل كلا الاحتمالين الناتجين عن فرض كون المربع هو
المصداق لكلي الشكل المعلوم بالعلم الإجمالي القبلي، انتفى
أن يكون المربع هو الشكل الواقعي للورقة التي أراها
مستديرة الشكل. ويجري الأمر عينه في جميع الأشكال الأخرى
التي يمكن أن تشكّل أطرافًا للعلم الإجمالي بكليّ الشكل،
ما عدا الشكل الذي نراه، وهو المستدير في مثالنا.
ويتبين بذلك أننا إذا أثبتنا ومن خلال تراكم قيم احتمالية
نحصل عليها عن طريق الاستقراء أن رؤيتنا موضوعية فإننا
نثبت بالتالي أن المستدير هو المصداق الوحيد لكلي الشكل
المعلوم بالعلم الإجمالي القبلي.
وهذه القيمة الاحتمالية المثبتة لكون المستدير هو المصداق
الواقعي لكلي الشكل، حاكمة في الوقت نفسه على القيمة
الاحتمالية النافية لذلك والمستمدّة من العلم الإجمالي
القبلي. والمراد بهذه القيمة الاحتمالية النافية، القيمة
الاحتمالية التي نحصل عليها من علمنا الإجمالي المتعلق
بكلي الشكل، حيث يشكّل هذا الكلي جامعًا بين أشكال، يحتمل
أن يكون كل واحد منها مصداقًا لذلك الكلي، واحتمال مصداقية
كل طرف تثبت من جهة احتمال مصداقية هذا الطرف بعينه، وتنفي
من جهة أخرى - وبالدرجة نفسها - مصداقية باقي الأطراف.
ولكن هذه القيمة الاحتمالية النافية، والتي تنفي مصداقية
المستدير - في مثالنا - وتحتمل أن يكون المربع هو المصداق
الواقعي لكلي الشكل، تحكم عليها القيمة الاحتمالية
المثبتة,فإن هذه القيمة الاحتمالية المثبتة حيث إنها
تنمِّي احتمال مصداقية المستدير, وتخفض قيمة احتمال
مصداقية باقي الأشكال, فإنها تكون حاكمة على القيمة
الاحتمالية التي يحددها العلم الإجمالي القبلي([1]).
فإذا ارتفعت وبدرجة كبيرة القيمة الاحتمالية المثبتة لكون
المصداق لما أراه مستديرًا هو المستدير واقعًا، وانخفضت في
المقابل، وبالدرجة نفسها مصداقية باقي الأشكال - كالمربع
في مثالنا – وإذا كانت القيمة الاحتمالية النافية لمصداقية
المستدير محكومة بالقيمة الاحتمالية المثبتة لذلك, فإن
النتيجة تكون : أن ما أراه مستديرًا هو مستدير في الواقع
أيضًا.
وبناء على هذه النتيجة، يثبت التشابه بين الصور المحسوسة
والواقع الموضوعي لها.
مناقشة موقف
(الأسس المنطقية للاستقراء):
بينَّا أن الشهيد
الصدر يذهب إلى الاعتقاد بوجود درجة من التشابه بين الصور
الحسّية والواقع الموضوعي لها، ويظهر أنّ مراده من ذلك هو
التشابه من حيث الخصائص إذ يقول:[ أثبتنا أن الواقع
الموضوعي للصورة المحسوسة يشبهها في كثير من الخصائص]([2])،
وهذا التشابه في الخصائص غير مختص عنده ببعض أنواع الصور
المحسوسة، بل هو عام يشمل جميع تلك الصور، وهو ما يشير
إليه بقوله: [ ما دمنا قد عرفنا أن كل صورة محسوسة تشابه
الشيء الذي أثارها في الواقع الموضوعي ]([3]).
والملاحظة
الأساسية التي يمكن تسجيلها على ما يذهب إليه (قده) هي أن
الدليل الذي أقامه أخصّ من المدّعى، إذ المدّعى هو وجود
تشابه بين كل صورة محسوسة وبين الواقع، بينما لم يُثبت
الدليل سوى التشابه بين الصورة المُبْصَرة للشكل وبين
الشكل في العالم الموضوعي، ولم يتعدَّ ذلك إلى باقي
المُبْصَرات كاللون، ولا إلى باقي المحسوسات كالطعوم
والروائح.
وقد يقال: إن
الشهيد الصدر إنما استخدم (الشكل) في دليله الاستقرائي
كمثال فقط، ولكنه أراد من هذا الدليل إثبات التشابه بين
جميع الصور الحسية والواقع.
ونجيب: ليست
المشكلة مشكلة المثال، وإنما الدليل نفسه قاصر عن إثبات
عموم المدّعى.
وذلك لأن الدليل
الاستقرائي - وكما بينَّاه سابقًا - مبني على وجود علم
إجمالي قبلي يتعلق بكليّ غير محدّد، وهذا الكلي لا تردّد
فيه، لأنه معلوم بالعلم الإجمالي القبلي، ولكننا نتردّد في
مصداق ذلك الكلي المعلوم، فنُثبت المصداق عن طريق الدليل
الاستقرائي، ولولا وجود ذلك العلم الإجمالي أولاً، لما
وصلت النّوبة إلى الدليل الاستقرائي المثبت لخصوص المصداق.
وبهذه الطريقة
أثبتنا التشابه بين الصورة المحسوسة للشكل وبين الشكل
الواقعي، فقلنا بوجود علم إجمالي يُثبت وجود شكل هندسيّ
للشيء في الواقع، ثم تردّدنا في مصداق هذا الشكل، هل هو
المستدير كما يظهر لمداركنا الحسّية، أم هو المربع وعلى
خلاف ما يظهر لتلك المدارك؟
وهنا جاء دور
الاستقراء ليثبت أن المصداق الواقعيّ للشكل هو المستدير
وليس المربع.
ولكن هذا إن صحَّ
في خصوص قضية الشكل من المُبْصَرات، فإنه لا يصحّ في باقي
المبصرات، علاوة على المحسوسات الأخرى من غير المبصرات،
كالطعوم والروائح.
ولنوضح المسألة
فيما يتعلق بباقي المبصرات كاللون، وعليها يُقاس ما يتعلّق
بالمحسوسات الأخرى من غير المُبصرات.
ففيما يتعلق
باللون يمكن أن يقال: إن اللون لا وجود له في الواقع
الموضوعي، ولكن أذهاننا هي التي تصنع الألوان نتيجة ما
تتلقّاه العين من الأشعة التي تعكسها الأجسام، فنحن لا
نواجه لونًا موجودًا في الخارج، ثم وعبر عمليات فيزيولوجية
معيَّنة، نحصل على صورة حسّية في الذهن تحاكي ذلك اللون
الخارجي، بل إننا نواجه أشياء تقوم بدور الأسباب والشروط،
فيصنع الذهن من خلالها صورة حسّية للون، لا وجود لما
يماثلها في الواقع الموضوعي.
وهذا معناه أننا
لا نمتلك علمًا إجماليًا قبليًا يتعلق باللون. وإذا كنّا
لا نمتلك مثل هذا العلم الإجمالي أساسًا، فلا يصل البحث
إلى المصداق، لِيُتَردَّدَ فيه، ويشكّ في أن ما أراه من
لونٍ أخضر – مثلاً - هل هو الأخضر في الواقع أم الأزرق ؟
وذلك لأن دليل الاستقراء - كما ذكرنا - مبني على وجود علم
إجمالي قبلي يُثبت أصل وجود شكل أو لون... ثم يأتي دور
الاستقراء فيثبت المصداق ويبرهن على التشابه بين الصورة
المحسوسة والواقع.
ولو صح وجود هذا
العلم الإجمالي المتعلق بوجود الشكل في العالم الموضوعي,
فمن أين لنا أن نثبت وجود مثل هذا العلم فيما يتعلق
باللون؟!
وبهذا يظهر أن
دليل الاستقراء يختص بإثبات مصداق الشكل وما يماثله، فيدل
على التشابه بين الصورة المحسوسة للشكل وبين الشكل
الواقعي، ولكنّه لا يفي بإثبات التشابه بين باقي صور
المحسوسات من مُبصَرات وغيرها، وبين الواقع الموضوعي لها,
إلا إذا استطعنا أن نثبت وجود علم إجمالي قبلي يتعلق بوجود
مصاديق هذه الصور المحسوسة في الواقع. وهو ما لم يثبت, بل
لعل الأصح عدم وجوده.
والخلاصة هي أن
أيّاً من الدليلين اللذين أقامهما فلاسفتنا المحدثون على
المطابقة والتشابه بين الصور الحسّية المختلفة وبين الواقع
الموضوعي، وهما دليل لزوم السفسطة ودليل الاستقراء غير
وافيين بالبرهنة على المدَّعَى.
وهذا ما يؤكد على
ما ذكرناه في بحثنا السابق من ضرورة تولية نظرية الإدراك
الحسّي في الفلسفة الإسلامية المزيد من الاهتمام، لمحاولة
بناء نظرية واضحة المعالم راسخة الأسس، لما لهذه النظرية
من أهمية، حيث تعتبر اللبنة الأساس التي يقوم عليها كل
بناء نظري، ثم تبتني عليها كل عقيدة.
انتهى المقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- يراجع في بيان مسألة الحكومة وتفصيلها كتاب [الأسس المنطقية للاستقراء]
وبالأخص البحث المتعلق بالفرضية الثانية من
الفرضيات التي تفي ببديهة الحكومة، ص 233.
[2]
- الأسس المنطقية للاستقراء، ص 468.
|