العددان السابع والثامن / 2006م - 2007م /1427هـ - 1428هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

إطلالة على سيرة المحقق الكركي

ودعوة إلى حفظ حوزته

د.خضر نبها*

في عدد سابق لمجلة رسالة النجف، كتبت عن منزل الشيخ بهاء الدين العاملي في قريتي إيعات، وتمنّيت لو أنه يصبح متحفًا ورمزًا وطنيًا كسائر المتاحف في هذا الوطن الحبيب، واليوم واستكمالاً للدعوة السابقة أتحدّث عن حوزة المحقق الكركي في قرية الكرك.

والكَرَك بفتح أوّله وثانيه، هي حسب ما أورده ياقوت الحموي في معجم البلدان: هي قرية كبيرة قرب بعلبك، بها قبر طويل يزعم أهل تلك النواحي أنه قبر نوحٍ (عليه السلام)([1])، في هذه القرية ولد علي بن الحسين بن علي بن محمد بن عبد العال ، المعروف بالمحقق الكركي، وبالمحقق الثاني([2])، ويقال له علي بن عبد العال اختصارًا.

ولد في كرك نوح سنة 868هـ([3])، والبعض اعتبر ولادته سنة 870 هـ([4])، وكرك نوح اليوم هي قرية كبيرة في ضاحية مدينة زحلة أدنى سفح جبل لبنان المطل على سهل البقاع، وكانت يوم ولد المحقق الكركي من المراكز العلمية المعروفة في الشام إلى جانب مركزي جزين ومشغرة([5]).

ولا نعرف شيئًا عن عائلته ونشأته سوى أن شيخه محمد بن علي بن محمد بن خاتون العيناثي يذكر أباه، فيصفه بـ[الشيخ الورع التقي النقي الزاهد العابد] ([6]).

خرج المحقق من قريته لطلب العلم ولا نعرف تاريخ خروجه، فيمّم شطر [جبل عامل]، وبالتحديد قرية عيناثا، حيث قرأ على ابن خاتون، ومن بعدها انتقل إلى جزين قرية [ابن المؤذن]، وقرية ثالثة لم نعرفها لندرة المعلومات عن شيخه الشيخ محمد بن أحمد الصهيوني ومسكنه في جبل عامل([7])، وسافر المحقق إلى مصر وأخذ منها فقه وحديث مذاهب أهل السنة ، وحضر على كبار علمائها وحصل منهم على إجازات([8])، وسمع في دمشق معظم مسند الشافعي وصحيح مسلم إلا مواضع([9])، ونذكر في هذه المناسبة أن مثل هذه الرحلة بغية الاتصال بالمراكز العلمية السنية ورجالها كانت سنّة عاملية حميدة درج عليها فقهاء جبل عامل ولم تنقطع إلا بعد جريمة قتل الشهيد الثاني على يد العثمانيين سنة 965هـ ([10]).

واستقر المحقق الكركي دهرًا طويلاً في بلدته الكرك، واختص بفقيه عصره زين الدين علي بن هلال الجزائري، ولازمه أتمّ ملازمة ، وقرأ عليه في الفقه والأصول والمنطق وحمل عنه كثيرًا وتخرّج به([11])، وأظن أن المحقق الكركي وأستاذه زين الدين علي بن هلال هما من روّج لحوزة الكركي العلمية موضوع بحثنا، لأن الجزائري هو في الأساس ولد في جزائر خوزستان في بلاد إيران([12])ولكنه سكن كرك نوح ودرس وصنّف فيها وطال عمره وبعد صيته وقصده الطلبة وصار فقيه الآلاف منهم في عصره([13])، ويبدو أن الجزائري كان أبعد شيوخ المحقق الكركي أثرًا فيه، إذ يقول المحق عنه: فممن قرأت عليه وأخذت عنه واتصلت روايتي به ولازمته دهرًا طويلاً وأزمنة كثيرة وهو أجلّ أشياخي وأمهرهم ، هو شيخ الشيعة الإمامية غير منازع([14])... إذن ، إن استقرار المحقّق الكركي وأستاذه في الكرك لمدّة طويلة ساعد في إعطاء حوزة الكرك العلمية مركزًا مرموقًا في حينه، حتى كانت مقصدًا لطلاب العلم والباحثين.

ولكن في سنة 916هـ كان للمحقق الكركي من العمر ما يزيد عن خمس وأربعين سنة، أي في كمال شبابه ونضوجه، قصد مدينة [هراة] في إيران([15])، واتصل بالسلطان إسماعيل الصفوي، فأكرمه السلطان وعرف قدره .

وإن مبادرة الكركي في اتجاه إيران في تلك اللحظة الحرجة من تاريخها هي بنفسها خبطة هائلة وتدلنا على مبلغ شجاعة المحقق، وبُعد نظره ، وثقته بنفسه، وحسّه التاريخي وروحه الرسالية حقًا.

إنها مبادرة إنسان تحرّكه روح الأفراد الذين صنعتهم أن يغيروا مجرى التاريخ، الذين يتحرّكون على أساس أن أيّ ميدان يناسب أفكارهم في الدنيا هو ميدانهم هم ، بصرف النظر عن موقعه الجغرافي والحواجز الثقافية أو أي شيء مما تقتضيه الحسابات الموضعية التي يعتمدها الرجال العاديون، أولئك هم الأبطال حقًا([16]).

ثم توجه الكركي إلى أصفهان وقزوين في عهد السلطان طهماسب بن إسماعيل الصفوي الذي ولي سنة 930 هـ، فعظمه السلطان غاية التعظيم، وعيّنه حاكمًا في الأمور الشرعية لجميع بلدان إيران، فشمّر عن ساعد الجد، فأسّس المدارس، وأفاض العلم ومارس الفتوى، ونشر الفكر الإسلامي، وأحيا شعائر الإسلام، ووضع الأسس الشرعية الدستورية للدولة الصفوية (ولاية الفقيه)، وأصبح صاحب الكلمة المسموعة في إيران([17])، باعتباره [نائب الإمام]([18]).

وسأذكر هنا نادرة حصلت بين المحقق الكركي والشاه إسماعيل الصفوي، والتي تدل وبحق على اعتداد المحقق بما يرى ويعتقد أنه حق، لا سيما إيمانه بمبدأ الحوار وأنه الحجة والبرهان .

تقول النادرة: إن الشاه عندما أتمّ فتح هراة وباتت الهضبة الإيرانية كلها في حكمه ، أمر الشاه بقتل جماعة من فقهاء السنة، من بينهم شيخ الإسلام فيها أحمد بن يحيى الشهير بأحمد الحفيد لأنه كان حفيدًا لسعد الدين التفتازاني الشهير ، عندها اتّجه المحقق إلى الشاه مباشرة وأنكر عليه ما فعله، وقال له لو لم يُقتل لأمكن أن يتمّ عليه بالحجج والبراهين أحقية مذهب الإمامية ويذعن بإلزامه جميع ما وراء النهر وخراسان([19]).

وبحقّ هذه هي روح الكبار ، التي تؤمن بالحوار والجدل ، لا بالقتل والعنف ، وبهذا أصبح المحقق الذي دخل إيران غريبًا وحيدًا ، القادم من قرية كرك نوح القصيّة [نقطة الدائرة ومعتقد حكام ومرجع العلماء] على حد قول خواند أمير ، المؤرّخ الإيراني الرسمي لتلك الفترة([20]).

وفي سنة 940هـ، توفي المحقق الكركي في النجف الأشرف مسمومًا ، ولعل الصوفيين هم الذين دسّوا السم له.

ترك المحقق الكركي عدّة مؤلفات جلها رسائل وحواشي، منها: جامع المقاصد في شرح القواعد [مطبوع في 13 جزء]، رسالة في المنع عن تقليد الميت، رسالة في العصير العنبي، رسالة أحكام السلام والتحية، وغيرها كثير([21])

وفي الختام أتوجّه بالدعوة ومن جديد إلى الاهتمام بحوزة المحقق الكركي العلمية ، هذه الحوزة التي مكث فيها المحقق مع أستاذه دهرًا من الزمن مفتيًا ومدرسًا ومؤلفًا،وجعلها متحفًا وطنيًا ، أو على الأقل مركزًا علميا في تلك المنطقة من لبنان الحبيب.

ـــــــــــــــــــ

الهوامش

*    باحث متخصص في الدراسات الاسلامية.

[1] - ياقوت الحموي: معجم البلدان ، دار صادر ، بيروت، لا ط، لا س ، ج4 ص453.

[2] - المحقق الأول هو جعفر بن سعيد الحلي صاحب كتاب الشرائع.

[3] - الشيخ جعفر السبحاني: موسوعة طبقات الفقهاء، دار الأضواء، لبنان، ط1، سنة 2000، ج10، ص162.

[4] - الشيخ الدكتور جعفر المهاجر: ستة فقهاء أبطال ، مركز الدراسات والتوثيق، ط1، سنة 1994، ص112.

[5] - المصدر نفسه ص112.

[6] - المصدر نفسه ص112.

[7] - المصدر نفسه ص113.

[8] - من هؤلاء: أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري، وعبد الرحمن بن الأبانة الأنصاري، الشيخ جعفر السبحاني: موسوعة طبقات الفقهاء، ج10 ص164.

[9] - المصدر نفسه.

[10] - الشيخ الدكتور جعفر المهاجر: ستة فقهاء أبطال، ص114.

[11] - الشيخ جعفر السبحاني: موسوعة طبقات الفقهاء، ج10 ص163.

[12] - علي بن هلال أبو الحسن الجزائري مولدًا ، والعراقي أصلاً ، ارتحل إلى العراق وأدرك فقيه عصره أحمد بن محمد بن فهد الحلي (ت 841هـ) وقرأ عليه وأخذ عنه، وأخذ أيضًا عن تلميذ  ابن فهد جمال الدين الحسن بن الحسين بن مطر الأسدي الجزائري والحسن بن يوسف ابن العشرة الكسرواني ؛ السبحاني: موسوعة طبقات الفقهاء، ج10 ص191.

[13] - المصدر نفسه ، ج10 ص191.

[14] - الشيخ الدكتور جعفر المهاجر: ستة فقهاء أبطال، ص114، ويذكر المؤلف أن نصّ الإجازة موجود في بحار الأنوار ج108 ص70.

[15] - المدينة اليوم هي في أفغانستان بحسب تقسيم الجغرافيا السياسية الحالية.

[16] - المهاجر: ستة فقهاء أبطال، ص115-116.

[17] - السبحاني: موسوعة طبقات الفقهاء، ج10 ص164.

[18] - د. حسن نصر الله: تاريخ كرك نوح، طبعة المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، دمشق، لا.ط، سنة 1986، ص90-91..

[19] - المهاجر: ستة فقهاء أبطال، ص118، ولو أن الدكتور جودت القزويني يشكك في هذه الواقعة.

[20] - المصدر نفسه، ص120.

[21] - راجع السبحاني: موسوعة طبقات الفقهاء، ج10 ص166.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والثامن      أرشيف المجلة     الرئيسية