أثر الحروب على المجتَمَعين:
يتبين من مقارنة سريعة وبسيطة، لطبيعة كل من المجتمعين،
استنادًا إلى ما تقدم ذكره بإيجاز شديد:
1ـ إن المجتمع العراقي مفكك، محكوم بالعصبيات القبلية، لا
يمتلك قضية يدافع عنها ويقاتل لأجلها بقوة وجدية، وهذه
كانت طبيعة الإنسان العربي على العموم, ذلك أن البحث عن
الغنائم لا يعني أكثر من السعي إلى ترف العيش ورغده، ظنًا
من الباحث عنها أنه بالمال والمكسب المادي, يحقّق سعادته
وراحة باله. فإذا تعارض ذلك مع الإبقاء على حياته -خصوصًا
إن خاب أمله في تحصيلها- كما حصل للعراقيين مع علي (عليه
السلام)، آثر الدعة والبقاء، على الإقدام وارتكاب الأهوال،
وإن كان في ذلك كرامته وعزته.
وهذا بخلاف أهل الشام الذين وجدوا في معاوية ضالتهم، وحقّق
معاوية فيهم أمانيه، فأخلصوا له وارتبطوا به، لما يرونه في
هذا الارتباط من تحقيق لآمالهم، وإشباع لرغباتهم، في تحصيل
المال والجاه والسلطان، خصوصًا إذا كان هذا الارتباط
بمعاوية لا يؤثر سلبًا على رؤيتهم للحياة والدين، بل
يخدمها ويتماشى معها.
2- إن العراقيين لما كانوا يفتقدون الهدف النبيل، والغاية
الشريفة من قتالهم وحروبهم، فإن من الطبيعي أن تفتر هممهم،
وتتهاوى عزائمهم، مع ويلات الحرب ومآسيها، ويتأكد ذلك
عندما لم يروا المكاسب التي كانوا يرجونها مع الانتصار
لعلي (عليه السلام)، فكان ذلك قمة الخلاف بين مبدأ
العراقيين ومبدأ علي (عليه السلام) في الحياة، ما جعلهم
ينقمون على الحرب، ويسعون بالتالي إلى التسليم والدعة، في
ما يزعمون، وإن لم يتحقق لهم ذلك من الناحية الواقعية، فإن
معاوية قد أذلّهم وأظهر كل جبروته فيهم من بعد.
وأما أهل الشام فإن هدفهم في طور التحقق، وغايتهم في معرض
التنفيذ، بعدما لم يتقيدوا بقوانين هذا الدين، ولم يكن لهم
من هم سوى تحصيل الغنيمة، وهي غاية تتوافق مع مطامح
العراقيين، إلا أن الفرق بينهما هو أن أهل الشام قد اتفقت
غايتهم مع قائدهم الجديد، فأعطاهم ذلك دفعًا قويًا في
القتال تحت لوائه ورايته، بخلاف ما كان عليه حال أهل
العراق مع إمامهم وقائدهم.
3- لقد وجد العراقيون أن الامتيازات التي حصلوا عليها
أثناء خلافة عمر بن الخطاب، لا يمكن استرجاعها، أو
المحافظة على ما بقي منها، إلا مع معاوية، خصوصًا وأنهم قد
اطّلعوا، بدون شك، على موقف عمر منه، والمدائح التي كان
يطلقها بحقه، إلا أنهم ومن ناحية أخرى كانوا قد التزموا
بمبايعة علي (عليه السلام) في الخلافة، والالتزام بالبيعة
من طبيعة العربي أصلاً، فلا يأمنون بالتالي على أنفسهم إن
هم نقضوا بيعتهم وانحازوا إلى صف معاوية، بعدما تأججت
الصراعات بين أهل العراق وأهل الشام على أكثر من صعيد،
الأمر الذي أدى إلى تذبذب واضح في مواقفهم، وطريقة
معالجتهم للأحداث والمشاكل، لأن لازم ذلك أنهم قد وقعوا
بين أمرين أحلاهما مرّ، فمن ناحية لا يمكن خوض الحرب إلى
جانب علي (عليه السلام)، إذ لا أمل لهم في الحصول على مغنم
أو مكسب يرجونه، ومن ناحية أخرى لا يضمنون تحصيل ذلك، إن
هم تركوه وانحازوا إلى صف معاوية، وأهل الشام معه، فآثروا
الراحة والدعة، والابتعاد عن الحرب، طلبًا للسلامة، وبحثًا
عن النجاة.
إن هذه الصفات تبدو ظاهرة وواضحة في أهل العراق من خلال
قراءة كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) الحاكية عن وصف
حالهم، واليأس منهم، وهي كثيرة ومبثوثة في مختلف خُطبه
وكلماته في نهج البلاغة وغيره، وقد وصل به الحال إلى أن
يتوجه إلى الله عز وجل بقوله: (اللهم إني قد مللتهم
وملّوني وسئمتهم وسئموني، فأبدلني خيرًا منهم وأبدلهم شرًا
مني).
وأما أهل الشام فلم يتغير أي شيء يؤثر على تماسكهم في
موقفهم وقناعاتهم، بل إن التطورات التي حصلت في صفين وما
بعدها من غارات وحملات على البلاد الواقعة تحت سلطة علي
(عليه السلام)، قد قوَّت عزيمتهم، وزادت من تصميمهم على
الثبات إلى جانب معاوية، وقد يكون ذلك بعضًا من الثأر من
العراقيين، الذين كانوا في الأساس من المقاتلين الذين
تحققّت الكثير من الفتوحات على أيديهم، خصوصًا وأن
الشاميين يرون أنفسهم أقدم وأعرق في تحكيم النظام على
مجتمعهم من العراقيين الذين هم بقايا القبائل العربية إن
صح التعبير، وهي ميزة يرون أنها تؤهلهم للانتقام منهم
بقوة، في محاولة إعادة الاعتبار لأنفسهم وقوتهم، دون أن
يؤدي ذلك إلى إثارة المسلمين ضدهم من جديد، إن هم أظهروا
أنهم فئة منهم.
الكوفة أيام الحسن (عليه السلام):
لقد كانت الكوفة حاضرة العراق وعاصمة أمير المؤمنين (عليه
السلام)، ومركز الثقل والقرار فيه، وهذا ما يفترض أن
يدخلها مختلف أصناف الناس ويسكنونها في زمانه، من خاصة
أصحابه (عليه السلام) الذين وفدوا إليها، ومن مواطنيها
الذين كانوا منقسمين في ما بينهم إلى جماعات وأحزاب، فقد
كان فيهم المتعاطفون مع علي (عليه السلام)، وفيهم الحزب
الأموي, الذي كان يعمل في الخفاء لتأليب الناس ضده،
والخوارج، والشكّاك الذين تأثروا بمقولة الخوارج فأضاعوا
الحق، والمذبذبين الذين ليس لهم موقف واضح من الأحداث،
وسواهم.
وأثار مقتله (عليه السلام) عواطفهم، وأجّج مشاعرهم،
فاندفعوا بمجملهم لبيعة الإمام الحسن (عليه السلام) بعده،
إما اتباعًا واقتناعًا، أو خوفًا وتملقًا من هياج الناس
ضدهم، أو كرهًا ببني أمية وخوفًا من شرورهم، وقد كانت له
بعد استشهاد أمير المؤمنين مباشرة، خطبة مؤثرة في الناس،
ويبدو أنها قد كان لها وقع مهم في نفوسهم، حيث بين لهم
موقعه في الإسلام وفيهم، فقام عبيد الله ابن عباس ودعاهم
إلى مبايعته([1])،
(وكان أول من بايعه قيس بن عبادة الأنصاري، وقال له: ابسط
يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المُحلِّين،
فقال الحسن (عليه السلام): على كتاب الله وسنة رسوله,
فإنهما يأتيان على كل شرط، فبايعه الناس، وكان الحسن (عليه
السلام) يشترط عليهم: أنكم مطيعون تسالمون من سالمت
وتحاربون من حاربت. فارتابوا بذلك, وقالوا: ما هذا لكم
بصاحب وما يريد هذا إلا القتال)([2]).
ويكشف هذا النص عن مدى فَرَق العراقيين من الحرب، وعن عدم
اقتناعهم بها، ويشير أيضًا إلى أنهم قد بايعوه رجاء
السلامة، واعتقادًا منهم أنه لن يسير بسيرة أبيه (عليه
السلام)، فكان شرطه عليهم مسفرًا عن سرائرهم وخفايا
أفئدتهم.
ولما بلغ معاوية خبر استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)،
وبيعة الناس لابنه الحسن (عليه السلام)، دس رجلاً من
حِميَر إلى الكوفة، ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا
إليه بالأخبار ويُفسدا على الحسن الأمور، وعرف الإمام
الحسن بذلك فاستخرجهما من مخبئيهما وضربت عنقاهما([3]).
الاستعداد للحرب:
إن أول عمل قام به الإمام الحسن (عليه السلام) أنه زاد
عطايا المقاتلين مائة مائة، كما فعل أمير المؤمنين (عليه
السلام) يوم الجمل([4])،
ثم أرسل إلى معاوية بعد قتل الجاسوسين في البصرة والكوفة،
رسالة جاء فيها: (أما بعد، فإنك دسست إليّ الرجال كأنك
تحبّ اللقاء، وما أشك في ذلك، فتوقّعه إن شاء الله...)([5]).
ثم أرسل معاوية رسالة يطلب فيها الصلح, ويمنّي الإمام أن
يكون خليفته من بعده، فأجابه الإمام: (أما بعد فقد وصل
إليّ كتابك فتركت جوابك خشية البغي عليك. فاتبع الحق تعلم
أني من أهله والسلام)([6]).
وأخذ كل من الطرفين، يعبئ رجاله للقتال، وأرسل كل منهما
إلى عمّاله ليلتحقوا به في الحرب، ولكن أهل العراق -
كعادتهم مع أبيه - لم يتحرّكوا، وأرسل بعضهم إلى معاوية
سرًا يستأمنه على عياله وأمواله، وتوالت الخيانات من قادة
جيشه، وعلى رأسهم عبيد الله بن عباس الذي انحاز إلى معسكر
معاوية وذهب معه سبعة آلاف رجل، نتيجة الدعاية التي كان
يطلقها معاوية ويبثها جواسيسه فيهم، حتى تفرق أكثر عسكره،
وحاولوا قتله ثلاث مرات، بعدما تلقوا من معاوية وعودًا
مفادها: أن من يقتل الحسن فله مائة ألف درهم، وجند من
أجناد الشام وبنت من بناتي. فلم يجد بدًا من أن يذكر
اقتراح معاوية الصلح، فقال لأصحابه: (وإن معاوية قد دعا
إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة, فإن أردتم الحياة قبلناه
منه، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى
الله، فنادى القوم بأجمعهم: بل البقية والحياة)([7]).
وقد حذّرهم الإمام (عليه السلام) مرة أخرى، حين علم
بمحاولة قتله، فقال لهم: (ويلكم إن معاوية لا يفي لأحد
منكم بما ضمنه في قتلي، وإني أظن إنْ وضعتُ يدي في يده
فأسلمه، لم يتركني أدين بدين جدي، وإني أقدر أن أعبد الله
عز وجل وحدي، ولكن كأني أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب
أبنائهم يستسقون ويستطعمون بما جعل الله لهم، فلا يُسقون
ولا يُطعمون، فبعدًا وسحقًا بما كسبته أيديهم، وسيعلم
الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون)([8]).
ولم يترك الأمام (عليه السلام) تذكير الناس بموقعه
ومكانته، حتى بعدما فُرض الصلح عليه، فإنه قد خطب في الناس
حين عزم على إبرام الصلح، وكان مما قال لهم: (أيها الناس
إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل بيت نبيكم الذين أذهب
الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا). وكرّر ذلك حتى ما بقي
في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه([9]).
إعلان الصلح:
وهكذا اضطر الإمام الحسن (عليه السلام) إلى قبول الصلح،
بعدما أتم الحجة على أهل العراق، حفاظًا على البقية
الباقية من شيعته وأصحابه، كما صرح (عليه السلام) بذلك في
أكثر من مقام، فقد سأله سائل عن السبب الذي دفعه إلى
الصلح، فأجابه الإمام (عليه السلام) مُبيّنًا الحكمة في
ذلك، وقال فيه: (.. ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على
وجه الأرض أحد إلا قتل)([10]).
وحين اعترض عليه حجر بن عدي بعدما وافق على الصلح وقال له:
(سوّدت وجوه المؤمنين)، فأجابه الإمام (عليه السلام): (ما
كل أحد يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك، وإنما فعلت ما فعلت
إبقاء عليكم)([11]).
هذا مع أن الإمام (عليه السلام) قد بيَّن لهم سبب لجوئه
إلى الصلح، فإنه بعدما تمَّت المعاهدة قام في أهل العراق،
فقال: (يا أهل العراق، إنه سخى بنفسي عنكم ثلاث: قتْلُكم
أبي، وطَعْنُكم إياي، وانتهابكم متاعي)([12]).
وهي أسباب يكفي كل واحد منها في إبراز الوجه الحقيقي لتشيع
أهل العراق، كما تقدم الحديث عنه، من أن تشيعهم لرغبة منهم
في سبيل الحصول على غاية دنيوية، ولم يكن الدافع لها محض
ديني ولا إطاعة الإمام من حيث هو إمام.
وأراد معاوية أن يضلّل الناس من جديد، فصعد المنبر بعد
إبرام الصلح وقال: (إن الحسن بن علي رآني أهلاً للخلافة،
ولم يرَ نفسه أهلاً لها). فلما فرغ صعد الإمام الحسن (عليه
السلام) وخطب فيهم مبينًا فضله وموقعه في الإسلام، قال
فيها: (... وإن معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلاً،
ولم أرَ نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية. نحن أولى بالناس في
كتاب الله عز وجل، وعلى لسان نبيه (صلى الله عليه آله) ولم
نزل أهل البيت مظلومين منذ قبض الله نبيه (صلى الله عليه
آله)، فالله بيننا وبين من ظلمنا حقنا، وتوثَّب على رقابنا
وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا في الفيء ومنع أمنا ما جعل
لها رسول الله (صلى الله عليه آله).
وأُقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله
(صلى الله عليه آله) لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها،
وما طمعت فيها يا معاوية الخ..)([13]).
بنود الصلح:
رغم أن التاريخ لم يحفظ لنا وثيقة الصلح على نحو متكامل،
واكتفى المؤرخون بالقول أن معاوية أرسل إلى الإمام صحيفة
بيضاء مختومًا على أسفلها بختمه، وكتب إليه:
أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك([14]).
وكان الإمام قد أرسل صحيفة إلى معاوية ذكر فيها بعض
الشروط، التي كان قد كتبها قبل ذلك ولكنها وصلت إلى معاوية
متأخرة عن إرساله الصحيفة البيضاء المختومة بخاتمه([15]).
على الرغم من ذلك إلا أن بعض بنود الصلح قد ذكرت بنحو
متفرق وغير مكتمل في المصادر التاريخية. وهي كما استقاها
العلامة آل ياسين وجمعها من مجمل المصادر التاريخية، كما
يلي:
1- تسليم الأمر إلى معاوية، على أن يعمل بكتاب الله وبسنة
رسوله (صلى الله عليه آله)، وبسيرة الخلفاء الصالحين.
2- أن يكون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه
الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد.
3- أن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا
يذكر عليًا إلا بخير.
4- استثناء ما في بيت مال الكوفة، وهو خمسة آلاف ألف، فلا
يشمله تسليم الأمر، وعلى معاوية أن يسلم إلى الحسين كل عام
ألفي ألف درهم، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصِلات على
بني عبد شمس، وأن يفرق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين
يوم الجمل، وأولاد من قتل معه بصفين ألف ألف درهم، وأن
يجعل ذلك من خراج دار أبجرد.
5- ان الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم
وعراقهم وحجازهم ويَمَنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن
يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحدًا بما
مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة.
وإن أصحاب علي آمنون حيث كانوا، ولا ينال أحدًا من شيعة
علي بمكروه، وأن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم
وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقب عليهم شيئًا، ولا
يتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حق حقه....
ثم كتبها معاوية بخطه، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل
الشام، وأخذ على نفسه عهد الله وميثاقه بالوفاء بكل ما ورد
فيها([16]).
وروى الصدوق (رحمه الله) شرطًا آخر, قال: بايع الحسن بن
علي (صلوات الله عليه) معاوية على أن لا يسميه أمير
المؤمنين, ولا يقيم عنده شهادة الخ..([17]).
ومن الملاحظ انه رغم تشتت جيش الإمام (عليه السلام)،
وتأثير معاوية على الكثيرين منهم وشراء ذممهم، إلا أنه كان
لا يزال يخشى قوته، وقدرته على قلب المعركة لصالحه، ولذلك
بادر إلى إرسال الصحيفة البيضاء ليشترط الإمام ما يريد،
وإلا فلم يكن مضطرًا إلى ذلك، لو أنه ضمن النتيجة لصالحه،
وهو ما يفسّر قبوله تفضيل بني هاشم في العطاء على بني
قومه، الأمر الذي يعني إقراره علنًا بحق بني هاشم وفضلهم
على بني عبد شمس، وهو ما لم يُقِر به أموي أصلاً.
تقييم الصلح ونتائجه:
إن مراجعة بنود الصلح التي أفصح التاريخ عنها، تكشف بوضوح،
عن مدى ما كان يتمتع به الإمام الحسن (عليه السلام) من
دراية وحنكة، وقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة، والتي
يستطيع من خلالها أن يستفيد من عناصر الضعف، ويحولها إلى
مواقع قوة، في مصلحة الدين والأمة، ذلك أنه على الرغم مما
ابتلي به من تفكّك في جيشه، وخيانة من قادته، وتذبذب
وانهزام من أتباعه وأنصاره، فقد كان لا يزال يملك زمام
المبادرة، حيث استطاع أن يفرض على معاوية شروطًا هو الرابح
فيها على كل حال، لأن معاوية قد أقرّ على نفسه بالبغي عليه
وظلمه، سواء التزم ببنود الصلح أم لم يلتزم، إذ أقرّ على
نفسه أنه ليس له أن يعهد بالأمر إلى أحد من بعده، بل يرجع
الحق إلى أهله، ومعنى ذلك أنه قد اعترف بأنه ليس أهلاً
للخلافة أصلاً. كما أن إلزامه بالعمل بسيرة الخلفاء
الصالحين يكشف بالملازمة عن أنه لم يكن كذلك، أمام ملأ
المسلمين، وخصوصا أهل الشام منهم.
وأما إذا لم يلتزم بالشروط المنصوص عليها، وهو ما حصل
بالفعل، فإنه يكون قد فضح نفسه أمام جميع المسلمين، وأثبت
من جديد أنه ليس أهلاً لما زعمه من قدرة ودهاء، في السياسة
كما اشتهر عنه، لأن القادر في الحقيقة، هو الذي يصل إلى
مبتغاه وغايته، من دون افتضاح ولا خيانة عهد، وقد أخذ على
نفسه عهد الله وميثاقه على الوفاء بكل شرط شرطه الإمام
الحسن (عليه السلام).
ثمة أمر آخر لا بد من الإشارة إليه، وهو أن الصلح قد أظهر
بشكل جلي من هو أهل للقيادة فعلاً، وهو الذي ينطلق من مبدأ
الدين، وينتهي إلى أن يكون الدين غايته، مع الحفاظ على
المتدينين، والخروج بأقل الخسائر، من معركة لم يكن ميزان
القوى المادية لصالحه، هذا إن فرض في موقفه خسارة أصلاً،
وبين من يبحث عن التسلّط على رقاب الناس، ضاربًا بكل القيم
الإنسانية، والمبادئ الإسلامية عرض الجدار لأجل مصلحته
الخاصة، وهو ما كشفه معاوية صريحًا بعد إعلان الصلح،
وانقلابه عليه حين صعد المنبر وقال لأهل العراق: (إني ما
قاتلتكم لتصلّوا أو لتصوموا وإنكم لتفعلون ذلك، ولكن
قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد آتاني الله ذلك وأنتم له
كارهون).
وفي المحصلة النهائية فإنه لولا صلح الحسن (عليه السلام)،
لأمكن أن يظل معاوية مُظهرًا نفسه بمظهر الحريص على الدين
وأهله أمام الناس، خصوصا بعد السيل الهائل من الأحاديث
التي وضعت على لسان رسول الله (صلى الله عليه آله)، وما
جرى عليه الخلفاء من قبله، من تصرفات كانت لصالحه، بحيث
أعطته شرعية وقداسة في أذهان الناس، استمرت ما يزيد على
العشرين عامًا، خصوصًا تلك التي تحرص على إظهاره من صحابة
رسول الله (صلى الله عليه آله)، معلنة عدالة كل صحابي
وإيمانه وتقواه، وحجية رأيه مهما كان سلوكه مشينًا،
واعتقاده مهينًا، والتي استفاد معاوية منها مدة طويلة.
وقد أسّس هذا الصلح لإبطال بيعة يزيد في ما بعد، وعلى لسان
معاوية نفسه، وهو الشرط الذي لم يُبقِ لمعاوية أيّةَ
مصداقية في نفوس الناس، بعدما نقض كافة الشروط الواردة في
معاهدة الصلح، وهو ما أعطى ثورة الحسين (عليه السلام)
الدافع القوي، والحجة الدامغة على جميع العابثين
والمتربصين بهذا الدين من كل جانب.
ويمكن القول أنه لولا صلح الحسن (عليه السلام) مع معاوية،
لما أمكن للحسين (عليه السلام) أن ينطلق بثورته المجيدة،
ولو انطلق فعلاً بدونه، لما أمكن لها أن تؤتي ثمارها
المباركة، من إحياء الدين بعدما اندرست معالمه، وخَفَتَ
نورُه، والقضاء على ملك بني أمية، وفضح أكذوبتهم، وتزييف
مقولتهم.
ذلك أن استمراره (عليه السلام) في القتال رغم ما حلّ به
يعني لا محالة الدخول في المجهول، من دون أية ثمرة ترتجى،
إذ لم يكن الناس مهيئين حتى ذلك الوقت لقبول أي تشكيك في
سلوكيات من أعطى معاوية تلك الهالة والشرعية، وبالتالي
ستكون النتيجة لصالح معاوية وحزبه، ولن تقوم للدين قائمة
بعدها، لأنه سيتمكن حينها من تضليل الناس، على نحو لا خلاص
منه مهما حاول المخلصون بعد ذلك أن يصحّحوا، إذ سيبدو أنه
كان محقًا، وأن الإمام (عليه السلام) باغٍ عليه، حيث أن
منطق القوة والسيطرة هو السائد في أذهان الناس.
وهذا بخلاف المبادرة إلى إعلان الصلح بالشروط التي فرضها
الإمام الحسن (عليه السلام)، فإنه أدّى إلى فضح أكذوبته،
كما تقدم، وهو ما سينعكس بالضرورة عند المُنصفين، ويدعوهم
إلى قراءة الفترة الماضية من جديد، بحيث تهتز ثقة الناس
بجميع تصرفاتهم وأعمالهم، ويجعل من حالة النقد عليهم وردِّ
آرائهم أمرًا مقبولاً ومنطقيًا، وبذلك تتهيأ الظروف
المناسبة للقيام بالحركة الحسينية فيما بعد وتؤتي ثمارها
المرجوة.
وهذا ما يفسر قوله (عليه السلام)، حين لامه بعض الناس على
توقيع الصلح، فأجابهم بقوله: (ويحكم ما تدرسون ما عملت،
والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت)([18])...
وهو ما أكده الإمام الباقر (عليه السلام) في ما بعد، وكان
ممن شهد وقعة كربلاء مع جده الحسين (عليه السلام)، قال:
(والله الذي صنعه الحسن ابن علي (عليه السلام) كان خيرًا
لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس)([19]).
وفي حديثه مع سدير, وقد بيَّن فضائل الحسن (عليه السلام),
قال له سدير: كيف يكون بتلك المنزلة, وقد كان منه ما كان
دفعها إلى معاوية؟ فقال (عليه السلام): اسكت, فإنه أعلم
بما صنع, لولا ما صنع لكان أمر عظيم([20]).
وقد أدرك معاوية في ما بعد، حقيقة ما صنعه الإمام الحسن
(عليه السلام) بصلحه هذا، ولهذا لم يقرّر قرارًا حتى عمد
إلى سمّه (عليه السلام) وقتله، بواسطة زوجته جعدى بنت
الأشعث، ولولا ذلك لم يكن بحاجة إلى تسميمه بعدما حصل على
ما يريد من الحصول على الخلافة بزعمه، خصوصًا وأن الإمام
(عليه السلام)، وهو المطلع على خفايا الأمور، قد علم بما
ستقترفه يدا معاوية بحقه، فكان أن شرط عليه، أنه إن حدث
للإمام الحسن شيء فالخلافة للحسين (عليه السلام) من بعده
دون سواه.
وهكذا أطبق الإمام عليه كافة أبواب الدهاء والمكر، وألزمه
لعنة ثابتة تلاحقه على مدى الأيام.
انتهى المقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
االهوامش
[1]-
الإرشاد، للشيخ المفيد، ص188.
[2]-
الكامل في التاريخ، ج3، ص402.
[4]-
مقاتل الطالبيين، ص34.
[5]-
مقاتل الطالبيين، ص33.
[7]-
بحار الأنوار، ج44، ص21.
[8]-
نفس المصدر، ج44، ص33.
[9]-
الكامل في التاريخ، ج3، ص406.
[10]-
بحار الأنوار، ج44، ص2.
[11]-
نفس المصدر، ج44، ص57.
[12]-
الكامل في التاريخ، ج3، ص405.
[13]-
نفس المصدر، ج44، ص63.
[14]-
صلح الحسن، آل ياسين، ص258؛ والكامل في التاريخ،
ج3، ص405.
[15]-
الكامل في التاريخ، ج3، ص405.
[16]-
صلح الحسن عليه السلام، ص259-262.
[18]-
بحار الأنوار، ج44، ص19.
[20]-
بحار الأنوار, ج44, ص1.
|