الطرف الثاني:
الداعي أو الراغب والطالب
وهنا
كلام عريض وبحث واسع غير أننا نقصده ونختصره بحدود ما
يتحمل المقال فأقول:
إن ما
ينبغي توفره في الداعي والطالب والراغب والآمل بعد
امتلاكه المعرفة على النحو الذي ذكرناه آنفًا:
أولا:
أن يَفيَ العبد للربّ كلّ عهد وميثاق وعقد والتزام،
فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }[1].
وسئل
الإمام الصادق (عليه السلام) عن سرّ عدم الاستجابة
للدعاء، فقال (عليه السلام) لأنكم لا تفون لله بعهده
وأن الله يقول{وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }،
والله لو وفيتم لله لوفى لكم[2].
وسئل
أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قوله تعالى:
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
فما بالنا ندعو فلا يجاب ؟ قال : ( إن قلوبكم خانت
بثمان خصال :
أولها
: إنكم
عرفتم الله، فلم تؤدّوا حقه كما أوجب عليكم، فما أغنت
عنكم معرفتكم شيئا.
والثانية : إنكم آمنتم برسوله، ثم خالفتم سنته وأمتّم
شريعته، فأين ثمرة إيمانكم ؟
والثالثة : إنكم قرأتم كتابه المنزل عليكم، فلم تعملوا
به، وقلتم : سمعنا وأطعنا، ثم خالفتم.
والرابعة : أنكم قلتم إنكم تخافون من النار، وأنتم في
كل وقت تقدمون إليها بمعاصيكم، فأين خوفكم ؟
والخامسة : إنكم قلتم إنكم ترغبون في الجنة، وانتم في
كل وقت تفعلون ما يباعدكم منها، فأين رغبتكم فيها ؟
والسادسة : إنكم أكلتم نعمة المولى، ولم تشكروا عليها.
والسابعة : إن الله أمركم بعداوة الشيطان، وقال :
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ
عَدُوّاً}[3]،
فعاديتموه بلا قول، وواليتموه بلا مخالفة.
والثامنة : إنكم جعلتم عيوب الناس نصب عيونكم، وعيوبكم
وراء ظهوركم، تلومون من أنتم أحق باللوم منه، فأي دعاء
يستجاب لكم مع هذا؟ وقد سددتم أبوابه وطرقه، فاتقوا
الله، وأصلحوا أعمالكم، وأخلصوا سرائركم، وأمروا
بالمعروف، وانهوا عن المنكر، فيستجيب الله لكم دعاءكم)
[4].
وقد سئل
الإمام الصادق (عليه السلام): يا ابن رسول الله ما بال
المؤمن إذا دعا ربما استجيب له وربما لم يستجب له، وقد
قال الله عز وجل (ادعوني استجب لكم) فقال (عليه
السلام) : إن العبد إذا دعا الله تبارك وتعالى بنية
صادقة وقلب مخلص استُجيب له بعد وفائه بعهد الله عز
وجل، وإذا دعا الله عز وجل بغير نية وإخلاص لم يُستجب
له، أليس الله يقول
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}
فمن وفى أُوفي له[5].
أقول
بأن العهد قد أخذ على العباد بما يشمل عالمي الاعتقاد
والعمل معًا، فعندما تقول الآية الشريفة أوفوا بعهدي،
معنى ذلك حصِّلوا الإيمان بالغيب وغيره من الاعتقادات،
وكذلك قوموا بما عليكم من واجبات دينكم الذي بلغكم
برسله ورسالته ولا تتنكبوا هذا الصراط، لأن ذلك إخلال
بالعهد.
ومن
الطبيعي أن تخضع المعاملة بين العبد والربّ إلى تلك
المعادلة جريًا على سنّة المفاعلة فكل من طرفيها يدعو
الآخر إليه وفق طبيعة الطرفين، فإذا ما حصل العبد على
وظيفة العبودية وما به قوامها من الاعتقاد والعمل فقد
تأهلّ حينئذ وصلح لصدور النداء ولمعت فيه بوارق إجابة
الدعاء.
وبعد،
فإن الوفاء بالعهد من العبد بناء على سعة نطاقه وشمول
معناه للاعتقاد والعمل، ينبغي أن يقدِّم العبد بين يدي
الدعاء التوبة وطلب العفو والمغفرة، ذلك أن غير
المعصوم لا يتوفر غالبًا على تحقيق العبودية والتزامات
العهد بالمعنى الذي يجعله طرف المفاعلة إلا بالتوبة بل
بالتوبة النصوح الخالصة.
وعليه
فإن ما ورد في الروايات الشريفة من أن الله عز وجل لا
يستجيب لفلان أو فلان أو فلان من أصحاب الذنوب
والكبائر والأعمال غير المرضية، كله راجع إلى هذا
الأصل أي الوفاء بالعهد لأن كل مخالفة هي نقض للعهد
وإنقاص لطرفية الطرف في معادلة المفاعلة.
وعلى
ضوء هذا الحاصل من فهم معنى العهد يتبيَّن ما في فتح
باب التوبة للعباد من الرحمة الإلهية والرأفة الربانية
وتحبُّب ذي العزة والجلال إلى العباد المبعدين أنفسهم
من ساحة القرب والحارمين لها من لذة الجذب.
الطرف الثالث: الدعاء
وهو نفس
المادة التي تربط الطرفين، ليُفيض من خلال هذا الربط،
الكاملُ من الطرفين على الناقص، والغني منهما على
الفقير المحتاج.
والكلام
في هذه المادة واسع أيضًا ومتفرع إلى حد كبير، فيدخل
في نطاق مفهومه ومعناه عناوين وعناوين، والذي يتحكم في
تحديد عنوان المادة هو منطقها وأسلوبها وغايتها، وعليه
فتارة يطلق على المادة عنوان المناجاة وأخرى التوسل،
وثالثة الذكر، ورابعة الطلب، إلى ما هنالك من أصناف
وعناوين بل تحت كل من هذه العناوين أفراد وأفراد.
والذي
يبدو لي وأنا أتحدث عن الدعاء - نفس المادة- أن أثير
بعض الأمور المهمة:
الأمر
الأول: المادة بين الاختراع والمسنون
وأقصد
بالاختراع أن ينسج الداعي والطالب لغته التي يناجي أو
يتوسل أو يطلب أو يذكر الله بها ومن خلالها، أما
المقصود بالمسنون فالأدعية والأذكار المأثورة عن أهل
الذكر العُرفاء الحقيقيين الذين تلقوا علمهم عن السماء
بلا واسطة.
وبالتأكيد إن الفارق بين اللغتين وروح اللغتين لا يسمح
بالمقارنة والمشابهة، ففرق بين لغة العرفاء الكاملين
وبين لغة غيرهم، سيما إذا افترضنا أن لغة الدعاء
وطبيعة ألفاظه ونظم تركيبه يؤثر في صفحة الكون من أرض
وسماء، فكل كلام له مستقر يستقر فيه، وعالم من عوالم
هذا الوجود يتربع فيه، بل يتعدى عن حدّ الاستقرار
والتربع إلى حد الفاعلية والتأثير، فمن غير الصحيح أن
ندرك من الكلمة أو الشعور والخاطر، أنها صوت يصدر عن
حناجرنا ليستقر في المسامع فحسب، فهذا فهم أقل من ساذج
وأرخص من الوهم.
يقول
تعالى:
{أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً
طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ِ*
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[6].
ولا
تنافي بين حمل الآية في مفردة الكلمة على الحجج
الأطهار (عليهم السلام) وحملها أيضًا على الدعاء فهو
من الكلمة بالمباشرة أو التأويل.
وورد في
الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): الدعاء
سلاح المؤمن، وعمود الدين ونور السموات والأرض[7]،
وكذلك الدعاء زين السموات والأرض، إلى غيرها من
المأثور عن فعل الدعاء وفاعليته وتأثيره.
لذلك
نعتقد أن الدعاء بالمأثور مقابل الاختراع هو المتعين
انسجامًا مع فهم الدعاء وغايته، وتطبيقًا لما ورد من
الروايات التي تحثّ على التعبد بالأدعية المنصوصة،
وإن كنّا لا ننفي أثر وفاعلية الخاطر الصادق المنطلق
من عمق النفس المتألمة والمضطرة، وكذلك صرخة المظلوم
وغيرها فإنها لغة مستجابة كذلك.
فقد
أورد الشيخ الكليني في الكافي عن عبد الرحيم القصير
قال : دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) فقلت :
جعلت فداك إني اخترعت دعاء قال : دعني من اختراعك إذا
نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وصلِّ ركعتين تهديهما إلى رسول الله (صلى الله عليه
وآله).. الحديث[8].
وعن عبد
الله بن سنان قال: قال الإمام الصادق (عليه السلام) :
ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى، ولا إمام هدى ولا
ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق، قلت : كيف دعاء
الغريق؟ قال : يقول : (يا الله يا رحمن يا رحيم يا
مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فقلت : " يا الله يا
رحمن يا رحيم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على
دينك " قال : إن الله عز وجل مقلب القلوب والإبصار،
ولكن قل كما أقول لك : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على
دينك)
[9].
الأمر
الثاني: الدعاء في المكان والزمان
نعتقد
بأن تخيّر الزمان وتخيّر المكان للدعاء والمناجاة
والطلب يدخل في ضمن الوسائل المبلّغة إلى الغايات
المرجوة من الدعاء، من مثل الدعاء في المسجد، أو
المكان الذي كان يواظب فيه المؤمن على الصلاة والذكر
والعبادة، وعند نزول المطر في أول آناته، أو في المكان
الذي تشرّف بطاعة صالح أو وليّ من الأولياء كبيوت
العلماء الربّانيين والصلحاء الذاكرين، أو في الكعبة
المشرّفة، وفي مقام إبراهيم، وفي مسجد النبي المطهَّر،
وعند قبره الشريف، أو في مراقد الأئمة المطهرين، سيما
في مرقد الإمام أبي عبد الله الحسين الشهيد المظلوم
(عليه السلام)، فإن الروايات الشريفة المأثورة عن
الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أكّدت على ذلك، كما
أنها أكّدت على تخيّر الزمان أيضًا، من مثل السدس
الأخير من الليل والفجر، والزوال، وساعة الأصيل،
وتَخَيّرت من الأيام الجمعة وليلته، ومن الأشهر شهر
رمضان وشعبان ورجب.
وما
ذكرناه هنا من تَخَيُّرات الزمان والمكان هو من باب
المثال وليس الحصر، وغرضنا أن نلفت إلى ما يجعل الدعاء
جامعًا لشروط الإجابة والكمال في التأثير والبلاغ، وقد
تضمنت كتب الأدعية والزيارات تحديد الأزمنة والأمكنة
والحالات التي ترجّح استجابة الدعاء، مثل كتاب مفاتيح
الجنان للشيخ عباس القمي، ومفتاح الجنات للسيد محسن
الأمين ومفتاح الفلاح للشيخ البهائي، والمصباح للكفعمي
وغيرها.
الأمر
الثالث: مكانة الصلاة على محمد وآل محمد في الدعاء
فقد ورد
في الروايات الشريفة عن الصادقين (عليهم السلام) : من
كانت له إلى الله عز وجل حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد
وآله، ثم يسأل حاجته، ثم يختم بالصلاة على محمد وآل
محمد، فإن الله عز وجل أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع
الوسط، إذ كانت الصلاة على محمد وآل محمد لا تحجب عنه[10].
وكذلك
ورد: كل دعاء محجوب عن السماء حتى يصلي على محمد وآل
محمد.
وعن
رسول الله (صلى الله عليه وآله): صلاتكم عليَّ إجابة
لدعائكم.
وورد
أيضّا: لا يزال الدعاء محجوبًا حتى يُصلّي على محمد
وآل محمد.
ولا
ينبغي وضع الصلاة على محمد وآل محمد موضع الاستغراب إذ
جعلت بهذه المكانة والأهمية، فالروايات جعلتها شافعة
الدعاء، وإذنَ مروره إلى عالم الإجابة وقضاء الحوائج،
ولا ينبغي الاستغراب بعد ورود الأمر من رب العالمين
الذي له الخلق والأمر، فقد قدّر سبحانه أن يمضي أمره
في خلقه عبر سننه التي سنّها وتقديره الذي قدّره، فجعل
مفتاح الإجابة وشافع الدعاء الصلاة على الرسول الحبيب
وآله الطيبين.
وأنزل
في ذلك قرآنًا آمرًا بصيغة مفخّمة مكرَّمة لم تجرِ
عليها سنن أوامره الشريفة إذ يقول
{إِنَّ
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}
[11].
وورد
أيضًا في آيات الكتاب العزيز الأمر بابتغاء الوسيلة
إلى الله عز وجل إذ يقول تعالى
{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}[12].
ونحن
نعرف من خلال المقطوع به من الأدلة أنه لا شيء من خلق
الله عز وجل أقرب إليه من محمد وآل محمد صلوات الله
عليه وعليهم أجمعين، فهي خيرة الوسائل وخيرها البتة.
ختام
أقول
بأن الدعاء أعني ما اشتمل على جميع ما ذكرنا من معان
وشروط ليَرقى لجهة التأثير والفاعلية في التحصيل على
إجابته وقضاء الحوائج به، وتحويل الصعاب إلى مُيَسّرات
سهلة، ليَرقى أنه لا شيء
إلى حد فاعلية وتأثير المادة بالمادة، بل يندرج
الدعاء في سلسلة العلل المادية الحاكمة في السنن
الكونية، بل نزيد على ذلك ونقول بأن حاكمية الدعاء على
السنن الكونية هي حاكمية الملكوت على الملك والمملوك،
وذلك لسبب اتحاد إرادة العبد من خلال الدعاء (أعني ما
اشتمل على جميع ما ذكرنا) مع إرادة الرب الذي لا يعجزه
شيء في الأرض ولا في السماء.
ويكفي
في تصوير هذا الاتحاد قوله تعالى
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ
وَيَكْشِفُ السُّوءَ}[13]،
وكذلك الحديث القدسي: (عبدي أطعني حتى أجعلك مثلي تقول
للشيء كن فيكون)[14].
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الهوامش
[1]
- سورة البقرة: من الآية40
[2]
- بحار الأنوار، العلامة
المجلسي، ج 90، ص 368.
[3]
- سورة فاطر من الآية6
[4]
- مستدرك الوسائل، الميرزا
النوري، ج 5، ص 269.
[5]
- بحار الأنوار ج19 ص58.
[6]
- سورة إبراهيم: 24-25.
[7]
- الكافي، الشيخ الكليني
3/468.
[8]
- الكافي، الشيخ الكليني ج
3 ص 476.
[9]
- كمال الدين وتمام
النعمة، الشيخ الصدوق (ت 381)، صححه علي أكبر
الغفاري، 1405 هـ، دار النشر الإسلامي ص 352.
[11]
- سورة الأحزاب الآية56.
[12]
- سورة المائدة: من
الآية35.
[13]
- سورة النمل من الآية62.
[14]
- شجرة طوبى، الشيخ محمد
مهدي الحائري، 1/33، ط5، 1385، المكتبة
الحيدرية.