←
ثالثا: أهل الذمة :
انطلاقًا من
مبدأ المساواة بين الناس، الذي أقرّه الإسلام، وأشرنا إلى
بعض النصوص الواردة فيه، تبدو مسألة أهل الذمة منسجمة مع
هذا المبدأ العام، وقد سلط أمير المؤمنين (عليه السلام)
الضوء عليها، في عهده لمالك الأشتر، حين ولاه على مصر،
بقوله: (ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم
صنفان إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)[1].
كما أبدى ألمه الشديد لعدم قدرة جنوده على الدفاع عن
النساء الذميات، حين كان رجال معاوية يغيرون عليهن بسلبهن،
فقال لأصحابه -مساويًا بين المرأة المسلمة والمرأة
الذمية-: (ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة
المسلمة والأخرى المعاهدة ، فينتزع حِجْلها وقُلْبَها
وقَلائدها ورعاثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع
والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كَلْمٌ
ولا أُريق لهم دم، فلو أن امرءًا مسلمًا مات بعد هذا أسفًا
ما كان به ملومًا، بل كان به عندي جديرًا)[2].
وهنا لا بد
من بيان الحكمة في جعلهم أهل الذمة، أو معاهدين، بحسب
تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام)، مع أن حق المواطنة
يعني أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين من حقوق
وواجبات، وحق المواطنة ينافي كونهم أهل ذمة، إذ المتبادر
من هذا العنوان أنهم لا حول لهم ولا قوة في دولة الإسلام،
وأن عليهم دفع الجزية، وكفى به ذلا لهم، كما يتصور معارضو
الدولة الإسلامية.
وفي جواب هذه الإشكالية نقول:
إن أي نظام
من أنظمة الحكم يفترض أنه توضع أحكامه موضع التنفيذ،
بواسطة العارفين بها والمؤمنين بصحتها، وليس من المنطقي أن
يؤتمن على القيام بهذه المهمة من لا يؤمن بصحتها
وفاعليتها، ولا الجاهل بأبعادها، ولا العامل على إلغائها
وإبطالها، وهذه قاعدة عقلائية لا يختلف الناس في صحتها، لو
خلي بينهم وبين وجدانهم السليم، وعلى هذا الأساس يمكن فهم
وتفسير قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن أحق الناس
بهذا الأمر - أي أمر الحكم - أقواهم عليه وأعلمهم بأمر
الله فيه).
ومن الظاهر
أن غير المسلمين لا يرون في حكم الإسلام حكمًا إلهيًا،
ولهذا يراهم الإسلام غير قادرين على تنفيذ أحكامه، الشاملة
لسائر نواحي الحياة، وقبول الإسلام لتصديهم لهذه المهمة
يعني، في بعض جهاته، أنّ الإسلام يدعوهم إلى التناقض مع
ذواتهم، لأن معنى ذلك أنه يدعوهم إلى إجراء ما لا يؤمنون
به، وتنفيذ ما يخالف التزاماتهم، وهو نقض للحقيقة
الإسلامية القائلة بأنه دين الفطرة {فِطْرَتَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[3]،
كما أن الإسلام قد أقرّ قاعدة الإلزام العقلائية، القائلة
(ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم), انسجامًا مع قانون الفطرة
المذكور.
هذا
بالإضافة إلى أن أهل الكتاب الذين هم أهل الذمة في
الإسلام، إما نصارى أو يهود، ولكل من الطائفتين نظرة إلى
نظام الحكم، بنحو مطلق، لا تتفق ونظرة الفئة الأخرى.
أما المسيحيون:
فإن ديانتهم
تحظر عليهم التدخل في شؤون الحكم، وتأمرهم بطاعة الحاكم،
مهما كان دينه ومذهبه ونظام حكمه، وقد تقدّم ذكر بعض
الأحاديث الإنجيلية، المنسوبة إلى السيد المسيح (عليه
السلام)، بل إنه في أشد ساعة من حياته، وحينما جاء إليه
الجنود وهم يحملون سيوفًا كثيرة ليعتقلوه، ويسوقوه إلى
رؤساء الكهنة، انبرى أحد تلاميذه (واستل سيفه، وضرب عبد
رئيس الكهنة فقطع أذنه، فقال له يسوع ردّ سيفك إلى مكانه.
لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون)[4],
في إشارة منه (عليه السلام) إلى أنه يحظر على أتباعه
استخدام السلاح والدخول في حرب ضد الآخرين، وإن كانت
دفاعًا عن سيدهم.
ومما يدل
على صحة هذا المبدأ عند المسيحيين ما ورد في رسالة بطرس
الأولى، التي وجّهها إلى المسيحيين، فإنه بعد ما بين لهم
أن وظيفتهم إكرام الملك والالتزام بأوامره، وأنه لا يحق
لهم الخروج على طاعته، قد ذكر لهم قاعدة كلية، فقال:
(لأنكم لهذا دعيتم. فإن المسيح تألم لأجلنا تاركًا لنا
مثالا لكي تتبعوا خطواته)[5].
وهذا
المضمون نفسه قد ورد في تعاليم بولس، بل ذهب إلى أبعد من
ذلك، حيث زعم أن السلطان مفوّض من الله تعالى، ومن يخالف
تعاليمه فقد حارب الله، يقول بولس: (لتخضع كل نفس للسلاطين
الفائقة. لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي
مرتبة من الله، حتى إنّ من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله
والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة)[6]،
وتقدمت الإشارة إلى ذلك.
فالمسيحي
إذن مأمور بعدم التصدي لأي موقع من مواقع الحكم والسلطان،
فإلزامه بما لا يعتقد، دفع له نحو الهاوية بزعمه، وهنا
تظهر قاعدة الإلزام بأجلى صورها، حيث أقره الإسلام على ما
يعتقد أن المسيح ودينه قد أمره به، وهذا في الحقيقة شهادة
عظيمة في صالح الإسلام، ولا يصح بأي حال من الأحوال أن
تستخدم ضده.
وأما اليهود:
فمضافًا إلى
أنهم لا يؤمنون على تسلّم أي مقام أو موقع، نتيجة ما
أثبتته الوقائع على مر التاريخ، من سوء سرائرهم، وخبث
نواياهم، ودناءة سلوكهم تجاه سائر الشعوب الأخرى، بل إن في
النصوص التوراتية ما هو صريح في الحث على إبادة الآخرين،
والقضاء على كل ما يمت إليهم بصلة، والواقع الذي نراه في
أرض فلسطين تحت اسم (دولة إسرائيل) خير شاهد على عدم
ائتمانهم في التصدي للأمور العامة، بل تراهم يعملون على
التخريب والفساد، في كافة المواقع التي يشغلونها في أي
مكان من العالم، ولعل نظرة يسيرة في كتاب (بروتوكولات
حكماء صهيون) خير دليل على ذلك.
مضافًا إلى
ذلك، فإن اليهود مأمورون بالابتعاد عن الحكم والقضاء بنص
التوراة، عند ظهور الإسلام، وهذا الأمر جارٍ على المسيحيين
أيضًا، وبأن يسلّموا مقاليد الأمور إلى أهلها، وهنا نذكر
نصين من التوراة:
النص الأول:
يقول حكاية
عن يعقوب (عليه السلام) حين جمع أولاده ليخبرهم بما يصيبهم
في آخر الأيام: (لا يزول قضيب من يهوذا أو مشترع من بين
رجليه حتى يأتي شيلون ويكون له خضوع الشعوب)[7].
لقد تباينت
الأقوال، وتفاوتت الآراء، في ما هو المراد في هذه النبوءة
تباينا حادا، وبحسب تعبير الآباء اليسوعيين: (النص ومعناه
موضوعا جدل. على كل حال، يدور الكلام على مجيء شخص تكتنفه
الأسرار و(تطيعه الشعوب) فالنبوءة تنتظر ملكًا مسيحيًا
مثاليًا)[8]،
ولهذا فقد ترجم كلمة شيلون في النص بـ(إلى أن يأتي
صاحبها)، وبدل عبارة ويكون له خضوع الشعوب ورد في الترجمة
السبعينية والسريانية والفلغاتا (وإياه تنتظر الأمم)[9].
وعلى كل
حال، فالمعنى الحرفي للكلمة (إلى أن يأتي من له الأمر)[10].
وحاول بعضهم أن يعتبرها لقبًا للمسيح (عليه السلام), رغم
اعترافه بأنها لم تستعمل كلقب له في غير هذا المورد, وأنها
ليس لها معنى واضح ككلمة[11].
إن هذا النص
رغم ما يكتنفه من غموض وإبهام، إلا أنه شبه صريح في
الدلالة على أنه إذا جاء شيلون انتهى حكم بني يهوذا.
وما تجدر
الإشارة إليه هنا, أنه رغم هذا الاختلاف الشديد في تفسير
النبوءة, ومعرفة ما هو المراد منها, إلا أن الجميع متفقون
على أن حكم بني يهوذا مؤقت لا استمرار له, وأنه مرهون
بمجيء من له الأمر, فإذا جاء لم يبق لبني يهوذا أي حق في
الملك. ولازم ذلك أنهم ملزمون بطاعة من له الأمر.
إلا أن
التوراة السامرية قد ذكرت في النص بدلا عن شيلون سليمان,
وأنه هو المراد بالنبوءة, وهو مخالف لكافة الترجمات كما
أشرنا إليه، هذا بالإضافة إلى أن الوقائع التاريخية لا
تساعد على تصديقها، لأن لازمه أن تكون حكومته (عليه
السلام) نهاية الحكومات الإلهية، ويعني نهاية العالم، مع
أنه (عليه السلام) كان من نسل يهوذا لا من نسل غيره، ومعه
لا يبقى للنبوءة معنى واضح..
وعلى كل
حال، فإذا جمعنا هذا النص إلى النص الثاني يظهر أن المراد
هو النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وشريعته.
النص الثاني:
(أقيم لهم
نبيا من وسط أخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل
ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي
يتكلم به باسمي أنا أطالبه)[12].
وهذا ما لا
ينطبق إلا على النبي (صلى الله عليه وآله) الأعظم وشريعته,
حيث لم يرد أن أحدا من إخوة بني إسرائيل, سواء من
الإسماعيليين أم من غيرهم, قد جاء بشريعة عامة وشاملة سواه
(صلى الله عليه وآله), وهو يدل على أن أهل الكتاب مأمورون
باتباعه بنص كتابهم المقدس.
فالإسلام هو
القادر على حكم الجماعات المتفرقة، والمحافظة على طقوسها
وأفرادها وحقوقهم، من أن ينالها أحد بسوء، إن هم التزموا
بالقوانين المرعية فيه، ولم يسعوا فسادًا في الأرض.
وأما
الملحدون والوثنيون, فمن الطبيعي أن لا يكون لهم موقع في
الدولة الإسلامية, بعد الفراغ عن أن الحكومة في الإسلام
تعمل على تطبيق أوامر الله تعالى, وتسعى إلى تحقيق الحق
والعدل من منظور إلهي, ذلك أن مواطنيها هم الذين يؤمنون
بمولويته تعالى, في أقل الفروض, وإن اختلفوا في ما وراء
ذلك من اعتقادات, حتى لو لم يؤمنوا برسول الله (صلى الله
عليه وآله) فقد حفظ الإسلام لهم كامل حقوق المواطنة.
فمن لا يؤمن
بمولويته وحاكميته الحقيقية تعالى، معاند بطبعه لهذه
القوانين والشرائع, ولهذا فهو لا يألو جهدا في أن ينقَضّ
على نظام الحكم هذا, عندما تتاح له الفرصة, وعلى الأقل لا
يؤمن في نفسه من عدم الانقضاض, وهذا في الحقيقة غير مختص
بالنصوص الإسلامية, بل نجد ما يدل عليه في النصوص المقدسة
عند اليهود والمسيحيين أيضا، وهو مبثوث في مختلف أسفار
العهد القديم، حيث كان العبرانيون يقاتلون بأمر الله، فإذا
انتصروا نهبوا معسكر العدو، وسلبوا الموتى، وأحيانا كانوا
يقتلون أو يشوهون الأسرى، وفي أكثر الأحيان كانوا
يصيّرونهم عبيدًا[13]،
والنصوص الدالة على وجوب إزالة كل ما يرتبط بالوثنيين من
أناس ومعابد وهياكل وتماثيل والقضاء عليها كثيرة جدا في
العهد القديم.
وعليه فلا
معنى لأن تحميه الدولة، التي يرى نفسه عدوًا لها, وتقوم
على شؤونه وحمايته, إلا من باب إصلاح نفسه, وتأليف قلبه
على الحق إن أمكن ذلك, كما ربما يشير إليه قول أمير
المؤمنين (عليه السلام): (فإنهما صنفان إما أخ لك في الدين
أو نظير لك في الخلق), فإن كونه نظيرًا في الخلق أعم من أن
يكون مؤمنًا بالله أو غير مؤمن, كتابيًا كان أو غير كتابي,
حيث بين (عليه السلام) فيه أن الملاك في ثبوت الحق كونه
إنسانًا يخضع لنظام الإسلام، بل الآية القرآنية الشريفة
{لا ينهاكم الله .. الآية} تشير إلى هذا المعنى أيضا،
حيث لم تقيد الأمر بأهل الكتاب، لأن الحقيقة التاريخية
تثبت أن الذين أخرجوهم أو لم يخرجوهم هم مشركو مكة والعرب،
ولم يكونوا من أهل الكتاب. وعلى كل حال فإن للبحث في هذا
الجانب مجالاً واسعًا.
ضريبة الجزية:
إن كل دولة
من الدول تحتاج إلى نفقات وخدمات، تمكنها من القيام
بمهامها تجاه شعبها، إذ إن عليها الكثير من النفقات
والمصارفات، في سبيل إصلاح شأن الناس على كافة المستويات،
الاقتصادية والتربوية والعمرانية والعسكرية والاستشفائية
والأمنية وغيرها، ولهذا فهي بحاجة إلى موارد متعددة تلجأ
إليها من أجل تحصيل هذه النفقات.
والضريبة من
جملة الموارد المادية التي تؤمنها الدول، وهي مقدار معين
من المال يدفعه المواطن للدولة، بدل الخدمات التي تؤمنها
الدولة له. وليس من المنطقي أن يتمتع المواطن بحقوق، دون
أن يترتب عليه أي واجب، في الدولة التي يعيش فيها وتؤمن له
كافة مقتضيات الراحة والهناء. وهذا المبدأ قد أقرته كافة
الشرائع الإنسانية والإلهية على مدى التاريخ قديمه وحديثه.
من ناحية
أخرى فإن المواطن يحس، عند دفع الضريبة، أنه شريك ومساهم
في بناء الدولة، ومسؤول عن حمايتها، وصونها من كل ما يمكن
أن تتعرض له، يعنيه كل ما يحصل فيها، وبالتالي يكون جديرًا
بمطالبة الدولة، والتظلم لديها عند إحساسه بانتقاص أي حق
من حقوقه، وهذا أمر فطري في الإنسان، فإن الحياة حقوق
وواجبات، منافع ومسؤوليات، مغارم ومغانم.
وقد أقر
الكتاب المقدس بعهديه هذه الضريبة، وأطلق عليها اسم الجزية[14]،
بل لقد اعتبرها كاتب التوراة فريضة على كل ذكر يهودي جاوز
العشرين من عمره، واعتبرها تقدمة للرب، وحدد مقدارها،
ومورد مصرفها على أنه لنفقات خيمة الاجتماع[15].
وبعد خراب
أورشليم، ألزم الامبراطور فاسبسيان جميع اليهود، في أنحاء
الامبراطورية أن يدفعوا لهيكل جوبيتير في رومية، الجزية
التي كانوا يدفعونها للهيكل[16].
وذكر كاتب
متى من الانجيليين أن السيد المسيح (عليه السلام)، قد دفع
الجزية[17]،
ولم يتعرض لها أحد من الانجيليين سواه، وعلل ذلك بعضهم
بأنه تعرض لذكرها لأنه كان جابيًا للضرائب. وفي علة دفع
المسيح الجزية، وإلزام المسيحيين بها، يقول: (نحن كشعب
الله غرباء على الأرض، لأن ولاءنا إنما هو لملكنا الحقيقي،
يسوع، ومع ذلك علينا أن نتعاون مع السلطات، وأن نكون
مواطنين ملتزمين، فالسفير لدولة أخرى يراعي القوانين
المحلية لكي يحسن تمثيل من أرسله، ونحن سفراء المسيح، فهل
أنت سفير صالح له في هذا العالم)[18].
وهذا
التعليق أو التعليل، يدل دلالة ظاهرة، على أنه ليس للمسيحي
أي شغل، في أعمال الدولة والحكم، وعلاقته بها مجرد تعاون
معها، وأما دولته وولاؤه الحقيقي فهما للسيد المسيح (عليه
السلام)، الذي صرح قائلا: (مملكتي ليست من هذا العالم)[19]،
فعلى المسيحي إذن أن يراعي القوانين التي تقرها الدول،
ليحسن تمثيل السيد المسيح (عليه السلام). وقد استقى
المُعلّق هذا المعنى من نصوص بولس المقدسة عندهم، حيث
يقول: (لذلك يلزم أن يخضع له (أي للملك والسلطان) ليس بسبب
الغضب فقط بل أيضا بسبب الضمير، فإنكم لأجل هذا توفون
الجزية أيضا. إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه،
فأعطوا الجميع حقوقهم الجزية لمن له جزية. الجباية لمن له
الجباية)[20]،
فقد اعتبر الجزية حقا من حقوق السلطان، مهما كان معتقده
ودينه، ومعنى ذلك أن المسيحي ملزم بدفعها له.
وعليه،
فإقرار الإسلام قانون الجزية على أهل الكتاب لا يشتمل على
أي إذلال لهم، أو حط من كراماتهم، كما يزعم ذلك البعض، بل
ألزمهم بما ألزمتهم به التوراة والسيد المسيح (عليه
السلام) وبولس، هذا من جهة.
ومن جهة
أخرى، فإن الإسلام قد خفّف عنهم، وجعل الجزية في مقابل
القيام على خدمتهم وحمايتهم، والذود عنهم، بعد ما أبعدوا
أنفسهم، على المستوى التشريعي، عن التصدي لمثل هذه الأمور،
ولعل خير من يمثل هذا الاتجاه بين المسيحيين في العصر
الراهن، هم شهود يهوه، الذين ينشطون في حركة التبشير،
ويحظرون على أتباعهم مبدأ الخدمة العسكرية والأعمال
الحربية، التزاما منهم بنصوص الكتاب المقدس بحسب زعمهم.
إلا أن ذلك
لا يعني أن الضريبة خاصة بأهل الكتاب، فإن على المسلمين
أنواعًا أخرى من الضرائب، وهي في نوعها وكمها تصل إلى
مستويات أعلى بكثير، من قيمة الجزية المدفوعة من أمثال
الخمس بأنواعه، والكفارات وغيرها. غاية الأمر أن تسمية
الضريبة المتوجبة على أهل الكتاب جزية، هو انسجام مع ما
أطلقوه أنفسهم عليها.
ومعنى كل ما
تقدم، أن الإسلام قد تعامل معهم، كما تعامل مع المسلمين
تماما، فاعتبرهم كامِلي المواطنة، في الحقوق، مع أن
الواجبات المترتبة على المسلمين أشد وأكبر، إذ لا يمكن
القول بأن من يعفى من الخدمة العسكرية، والمشاركة في
الأعمال الحربية دفاعا عن ثغور الدولة، ويحق له أن يفعل ما
يشاء، وأن يمتلك ما يشاء، مع مراعاة حاله في اعتقاداته
وعباداته بأنه مواطن منقوص الحقوق، إن لم نقل بأنه يتمتع
بحقوق أكثر من المسلمين، ما دام ملتزما حدود القانون الذي
يحميه، فمواطنته في الدولة الإسلامية من قبيل الإقامة
الدائمة، غير القابلة للعزل، إلا إذا أخل بنظام الحكم،
بحسب المصطلح المعاصر.
وتبقى نكتة
في المقام، وهي أن وصفهم بالصَّغار في الآية الشريفة {حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[21]،
ليس تصغيرا لشأنهم وحطًّا من كراماتهم من جهة أنهم أهل
الكتاب، أو أنهم غير مسلمين، بل منشؤه إعلانهم الحرب على
المسلمين، وتمنّعهم عن دفع الجزية أو الضريبة، استكبارًا
وعلوًا، فصغارهم من جهة إلزامهم بدفعها مع تمنّعهم عنها،
والفرق كبير بين المقامين كما لا يخفى.
الهوامش
[1]-
نهج البلاغة ، شرح محمد عبده : 3 /84 .
[2]-
نهج البلاغة, شرح محمد عبده, ج1,ص68.
[3]
- سورة
الروم، من الآية30.
[5]-
رسالة بطرس الأولى: 2/13-21.
[6]-
رسالة بولس إلى اهل رومية: 13/1-2.
[8]-
العهد القديم، ص145، تعليقة رقم (6).
[9]-
السنن القويم في تفسير العهد القديم، ج1 ص276.
[10]-
التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، ص121.
[11]-
التفسير الحديث للكتاب المقدس, سفر التكوين, ص251.
[12]-
سفر التثنية: 18/18-19.
[13]-
قاموس الكتاب المقدس, ص296.
[14]-
قاموس الكتاب المقدس, ص260.
[15]-
سفر الخروج: 30/12-16.
[16]-
قاموس الكتاب المقدس, ص260.
[17]-
إنجيل متى: 17/ 24-26.
[18]-
التفسير التطبيقي للكتاب المقدس, ص1930.
[20]-
رسالة رومية: 13/5-7.
[21]-
سورة التوبة, من الآية 29.
|