بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
علم المعرفة واحد من أهم الحقول في مجال الدراسات الفلسفية
المعاصرة، فهو يشكّل الركيزة الأساس لكل علم آخر، ولكل
عقيدة يعتنقها الإنسان، فلا يمكن لأي بناء نظري أن يستقيم
إلا إذا كان قائماً على أساس وجهة نظر معينة في علم
المعرفة.
فمن غير الممكن منطقياً لمنكر وجود العالم الموضوعي
-مثلاً- أن يؤسس علماً للفيزياء يبحث قوانين عالم المادة،
بينما هو ينكر أصل وجود هذا العالم، كما أنه من غير الممكن
أيضاً لمن يسلّم بوجود العالم الموضوعي ولكنه ينكر إمكانية
المعرفة -مثلاً- لا يمكن له أن يتبنّى أيّ موقف نظري يتعلق
بهذا العالم، إذ ما دام قد أنكر إمكانية المعرفة الموضوعية
على الإطلاق، فمن التناقض أن يدّعي بعد ذلك معرفة موضوعية
بهذا الأمر أو ذاك.
ثم إن المسائل التي تدور حولها الأبحاث الفلسفية في علم
المعرفة عديدة متنوعة، وذلك من قبيل البحث في حقيقة
الإدراك وتحديد ماهيته، وكالبحث عن المصدر الذي تنشأ منه
تصوراتنا وتصديقاتنا، وكذلك البحث عن قيمة معلوماتنا ومدى
مطابقتها للواقع الخارجي، ومنها البحث عن المعيار في صحة
إدراكاتنا وعدم صحتها إلخ …
وبحثنا هذا ينتمي إلى ميدان علم المعرفة، ولكن موضوعه محدد
في نقطة واحدة، وهذا بيانها:
حدود البحث:
قسّم الفلاسفة الإسلاميون العلم الحصولي إلى قسمين هما:
التصور والتصديق.
ففي قولنا مثلًا (السماء ماطرة): نتصور السماء، ونتصور
المطر، ونتصور أيضًا النسبة بين السماء والمطر.
ويأتي بعد ذلك دَوْر التصديق، حيث يقع الاعتقاد بمضمون هذه
القضية ومطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع الموضوعي.
ولا يتناول بحثنا هذا المسائل المتعلِّقة بالتصديق، بل
ينحصر في مجال التصور فقط.
ثم إن الفلاسفة الإسلاميين بيّنوا أن للتصور ثلاث مراحل:
·
مرحلة الحِسِّ.
·
مرحلة الخيال.
·
مرحلة التعقّل.
ومرحلة الحسّ هي المرحلة التي تكون فيها الحواسّ على اتصال
مباشر بالواقع الخارجي، وعن طريق هذا الاتصال تنشأ صورة في
الذهن يُدرك بواسطتها الواقع وما فيه من أشكال وألوان
وأصوات.. وأحد مقوّمات هذه المرحلة هو اتصال الحواسّ
بالعالم الخارجي، فإذا زال هذا الاتصال زالت معه الصورة
المحسوسة.
ويأتي بعد ذلك دور مرحلة الخيال، حيث يخلف الإدراك الحسيّ
أثرًا في النفس، يُعبّر عنه بالصورة الخيالية، وهذه
الصورة تبقى محفوظة في الذهن بعد زوال الصورة الحسّية، أي
بعد انقطاع الحواسّ عن الاتصال بالعالم الخارجي.
أما المرحلة الثالثة -مرحلة التعقل- فتأتي رتبتها بعد
مرحلة الخيال ، حيث تتكون لدى النفس من خلال الصورة
الخيالية صورةٌ كلية، لها قابلية الانطباق على
كثيرين، وذلك على خلاف الصورة الحسّية والصورة الخيالية،
فإنهما جزئيتان لا يمكن فرض صِدْق أيّ منهما على
أكثر من مصداق واحد.
وبَحْثُـنا هذا سيتناول المرحلة الأولى -مرحلة الحسّ- من
مراحل التصور، دون المرحلتين الأُخريَيْن -الخيال
والتعقّل-، وذلك لأن مرحلة الحسّ تعتبر اللّبِنَة الأساسية
التي تقوم عليها المرحلتان الأُخريان في معرفتنا للعالم
المحيط بنا، فإذا لم تتضح هذه المرحلة، ولم تقم على أساس
متين، فإن النَّوْبة لا تصل إلى المرحلتين الأُخريَيْن.
وغايتنا:
التعرّف على طبيعة النظرية التي يتبنّاها الفلاسفة
الإسلاميون المحدّثون، القائلون بنوعٍ من المطابقة بين
الصور الحسّية والواقع الموضوعي.
وإنما قَصَرْنا البحث على هذه النظرية بالخصوص من بين
نظريات الفلاسفة الإسلاميين، واكتفينا بآراء المحدَثين دون
سواهم، لأننا أَرَدْنا التعرُّفَ على النظرية السائدة
حاليًا، وتسليطَ الضوء على مدى وضوح مبناها.
والنقطة الأساسية في البحث هي التالية:
بعد تسليم وجود الواقع الموضوعي، والاعتراف بقدرة الإنسان
على إدراك هذا الواقع في الجملة، ينبثق السؤال:
هل ما يدركه الذهن من الصور الحسّية هو عبارة عن انعكاس أو
تمثيل لما هو في الخارج، بحيث يشكِّل ما في الذهن نوعًا من
الحكاية أو المطابقة للواقع الموضوعي ؟ أم أن الذهن، ومن
خلال اتصال الحواسّ بالواقع، يخترع صورًا لا وجود لما
يطابقها في الخارج، وإنما الموجود في الخارج -مثلاً- هو
عبارة عن مجموعة من المنبِّهات والمثيرات فقط، تحفّز
الذهن على اختراع صور لا واقع لها ؟
وعلى فَرْض وجود ما يعادل إدراكاتنا الحسّية في الخارج،
فهل نحن ندرك هذا الأمر على النحو نفسه الذي هو عليه
خارجًا ؟ أم أن إدراكنا يغيّر من صورته نَحْوًا من التغيير
؟
هل الأمر على هذا النحو أم ذاك؟ أم أن في البين نحوًا
ثالثًا كأن يقال -مثلاً- بأن بعض الوقائع الخارجية يدركها
الذهن كما هي، وبعضها الآخر ليست كذلك ؟
أم أن الأَمْر يكون بطُرُق أخرى غير كل ما ذُكر ؟
والخلاصـة:
إن هذا البحث له هدف واحد وهو التعرف على النظرية السائدة
لدى الفلاسفة الإسلاميين المحدثين، في مسألة مدى مطابقة
الإدراك الحسي للواقع الموضوعي -دون التصديقات، ودون
التصورات الأخرى-، وكذلك التعرّف على درجة الوضوح في هذه
النظرية، و مدى رسوخ مبناها.
آراء الفلاسفة المحدثين:
تُؤْمن النظرية السائدة لدى الفلاسفة الإسلاميين المحدثين
بنحو من المطابقة بين الصور الحسّية والواقع الموضوعي،
والشائع بينهم أن هذه المطابقة تقوم على أساس الاتحاد
الماهوي بين الصور الحسّية والواقع، باستثناء بعض نصوصهم
التي تبنَّتْ المطابقة ولكنها لم تحدد حقيقتها()
ونترك البيان لنصوصهم():
يقول العلامة الشيخ جعفر السبحاني -حفظه الله- في بَحْث
تحت عنوان: (اتحاد الصور الذهنية مع الحقائق الخارجية في
الماهية):
( قد عرفْتَ أن العلم عبارة عن حضور المعلوم بنفسه لدى
الذهن، وهذا يستلزم بالضرورة اتحاد ما في الذهن مع ما في
الخارج، اتحادًا ماهويًا لا وجوديًا، فالصور الذهنية عين
الحقيقة الخارجية، في الماهيات والأشكال والحدود، وغيرها
في سِنْخ الوجود.
فما تلبَّس بالوجود في النشأتَيْن ( الذهن والخارج ) أمر
واحد من حيث الماهية، غير أنه تحقق في النشأة الخارجية
بوجود عيني، وفي النشأة الذهنية بوجود ذهني، ولأجل ذلك لا
يترتب على كل من الوجودَيْن ما يترتب على نظيره وعديله )().
ومع أن هذا النص لم يُسَمِّ الصور الحسّية بالاسم، بل
تناول التصورات بنحو عام، غير أن المسألة تشمل الصور
الحسّية أيضًا وهو مايبيِّنه -حفظه الله- في نص آخر، حيث
يقول:
( وحصيلة منهج الجزم هو أن وراء النفس والنفسانيات موضوعات
واقعية، وأنَّ في الدار غيره ديَّار، وأن الإنسان قادر حسب
ما أُعطي من المواهب الحسّية والعقلية على التعرف
عليها تعرفًا كاملاً، على نحو يصح أن يقال معه: إن الموجود
في الخارج هو بعينه الحاصل في الذهن، والتفاوت بين
الموجودين هو في كيفية الظهور والوجود.
وبعبارة أخرى:
إن المعلوم الذهني يتحد ماهية مع المعلوم الخارجي، وإن كان
يختلف عنه في مرتبة الوجود، فالنار في الذهن نفس النار في
الخارج ماهية، غاية ما في الأمر أنهما يختلفان في كيفية
الظهور، ولأجل ذلك تكون النار الخارجية محرقة دون الذهنية
)().
ومن الواضح في هذا النص أن حديث المطابقة والاتحاد الماهوي
شامل للصور الحسّية أيضًا.
ويتبنّى الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله) في كتابه
( فلسفتنا ) موقفًا مماثلا لما يتبناه العلامة السبحاني،
فيقول:
(إن الصور الذهنية التي نكّونها عن واقع موضوعي معين فيها
ناحيتان: فهي من ناحية صورة الشيء ووجوده الخاص في ذهننا،
ولا بد لأجل ذلك أن يكون فيها الشيء
متمثلاً فيها، وإلا لم
تكن صورة له، ولكنها من ناحية أخرى تختلف عن الواقع
الموضوعي اختلافًا أساسيًا، لأنها لا تملك الخصائص التي
يتمتع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء، ولا تتوفر فيها ما
يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعالية والنشاط، فالصورة
الذهنية التي نكوّنها عن المادة أو الشمس أو الحرارة مهما
كانت دقيقة ومفصَّلة، لا يمكن أن تقوم بنفس الأدوار
الفعالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصورة
الذهنية في الخارج.
وبذلك نستطيع أن نحدّد الناحية الموضوعية للفكرة والناحية
الذاتية، أي الناحية المأخوذة عن الواقع الموضوعي،
والناحية التي ترجع إلى التبلور الذهني الخاص، فالفكرة
موضوعية باعتبار تمثّل الشيء فيها لدى الذهن، ولكن الشيء
الذي يمثّل لدى الذهن في تلك الصورة يفقد كل فعالية ونشاط
مما كان يتمتع به في المجال الخارجي، بسبب التصرف الذاتي،
وهذا الفارق هو في اللغة الفلسفية الفارق بين الماهية
والوجود)().
يوضح النَّصَّان المتقدمان المعالم الأساسية لهذه النظرية،
فهي نظرية تؤمن-عند عدم حدوث خطأ- بوجود مطابقة بين الصور
الحسّية والواقع الموضوعي حيث يمثل الذهن ما في الواقع
ولكن مع وجود فارق بينهما وهذا الفارق يعود إلى اختلاف
الآثار أو اختلاف الفعالية والنشاط، فيكون للشيء في الواقع
الموضوعي آثار وفعالية لا تكون له في وجوده الذهني، إذ لكل
منهما تبلوره الوجودي الخاصّ، غير أن هذا الفارق في
التبلور على صعيد الوجود لا يلغي الاتحاد أو التماثل على
صعيد آخر، أي على الصعيد الماهوي، فما في الذهن وما في
الخارج يتحدان ماهية وإن اختلفا أثرًا، لذا فماهية النار
في الواقع الموضوعي هي عينها ماهية النار في الذهن ولكن
فاعلية الإحراق التي تكون للنار الخارجية غير موجودة للنار
على مستوى الذهن.
يتبع=
ـــــــــــــــــــ
|