العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = (نظرية المعرفة)

إجمال في النظرية:

من الواضح في هذه النظرية أنها أقامت بنيانها في مطابقة ومماثلة الصور الحسّية للواقع على أساس الاتحاد والتماثل الماهوي، ولكننا لو حاولنا إلقاء نظرة نقدية على هذا الأساس لوجدناه أساسًا مبهم الحدود مجمل المعالم.

وذلك لأن المراد من مصطلح الماهية غير بيّن ولا مبين، فمن المعروف أن للماهية عدة معانٍ، كالماهية بالحمل الأولي، والماهية بالمعنى الأعم، والماهية بالمعنى الأخص.

والمعنيان الأولان غير مرادَيْن قطعًا، فيبقى المعنى الثالث، أي الماهية بالمعنى الأخص، وهو ما يلوح أنه المراد من كلماتهم في المقام.

غير أن هذا المعنى إذا كان هو المراد فإنه لا يخلو من شوائب في مسألة مطابقة الإدراك الحسّي للخارج ، وذلك لأن الماهية بهذا المعنى هي من المفاهيم الكلية وقد عرفوها بما يلي:

( الماهية -وهي ما يقال في جواب ما هو- لمّا كانت من حيث هي -وبالنظر إلى ذاتها في حد ذاتها، لا تأبى أن تتصف بأنها موجودة أو معدومة، كانت في حد ذاتها لا موجودة ولا لاموجودة..)([6]).

فلو سُئل مثلًا: (ماهو الإنسان ؟)، فإنه يقال في الجواب: (حيوان ناطق)، فماهية الإنسان عبارة عن الحيوانية والناطقية، فالماهية تُشَكِّل حدَّ الإنسان، من دون أن يُؤْخذ في ذلك الحدّ أنه موجود أو غير موجود، وكذلك لو سئل: (ماهو البياض؟)، فيجاب -مثلًا- بأنه: (لَوْن مُفَرِّق للبصر).

ومن الجليِّ أن الجواب على السؤال بما هو، إنما يكون بإيراد معانٍ كلية كالجنس والفصل -أو ما يقوم مقامهما-، وهذه المعاني لها قابلية الانطباق على أكثر من فرد أو مصداق، فالحيوان الناطق يمكن أن ينطبق على هذا الفرد أو ذاك، وعلى الذكر والأنثى، والكبير والصغير.. وكذلك الأمر حين نقول عن البياض بأنه لون مفرّق للبصر، فهذا ينطبق على بياض الثلج،كما ينطبق على بياض القرطاس.

فإذا اتضح مرادهم من مصطلح الماهية نعود إلى ما نحن فيه، من قولهم بالمطابقة بين الصور الحسّية والواقع الموضوعي على أساس الاتحاد الماهوي، لنتفحّص مدى وضوحه ومتانة بنيانه، فنقول:

إن الإنسان قد يلقي بنظره إلى الثلج، وإلى القطن، وإلى القرطاس، فيحسّ في كل مرة بالبياض، وهنا يحصل لديه أمران:

الأول: ذلك الإحساس الجزئي ببياض الثلج، والإحساس الجزئي ببياض القطن، والإحساس الجزئي ببياض القرطاس، وكل واحد من هذه الأحاسيس يشكِّل أمرًا جزئيًا خاصًّا، لا يناله الذهن عند الإحساس بما سواه.

 الثاني:  يفهم الإنسان المعنى الكلي للبياض، وهو كونه لوناً مفرّقاً للبصر، أي ماهية البياض.

وفي مقام الصور الحسّية، لا يدور البحث حول مطابقة المعنى الكليّ للبياض للواقع الموضوعي، بل مجال ذلك عند البحث عن الإدراك العقلي ومدى مطابقته للواقع.

بينما السؤال المطروح في مقامنا هو: عندما يدرك الإنسان صورة حسية لبياض الثلج الذي تقع عليه حاسة البصر، فهل هذه الصورة الحسّية الخاصة تطابق الواقع الخارجي للثلج ؟

فإذا قيل بوجود المطابقة، وأن هذه المطابقة هي مطابقة ماهوية بين الصور الحسّية والواقع، فإنه يتبين أنه يوجد خلط في هذه الإجابة بين الإدراك الحسي والإدراك العقلي، إذ حين يبصر الإنسان الثلج تحصل في ذهنه صورة حسّية للبياض، فإذا كفّ بصره عن الثلج ثم عاد إليه مرة أخرى، فإنه تحصل في ذهنه صورة حسية ثانية لبياض الثلج غير الصورة الأولى، فالصورة الحسّية تتعدد بتعدد المشاهدات، لكن وبالرغم من ذلك فإن ماهية البياض تبقى ماهية واحدة لا تتعدد، فماهية البياض في المشاهدة الأولى، هي عين ماهية البياض في المشاهدة الثانية، إذ معنى البياض في الحالتَيْن هو: لون مفرّق للبصر -مثلاً-.

غير أن هذه الوحدة الماهوية لا تجعل من الإحساسَيْن إحساسًا واحدًا، بل ما يزال لدينا صورتان وإحساسان، وكل واحد منهما يختلف عن الآخر، وإنْ جمعهما معنى كليٌّ واحدٌ، هو كون كل منهما يصْدُق عليه: أنه لون مفرّق للبصر.

ومسألة مطابقة الصورة الحسّية للواقع ليست ناظرة إلى ذلك المعنى الكلي، بل هي ناظرة إلى الصورة الجزئية ومدى ما تمثّله هذه الصورة من الواقع.

ولو كان كل ما تمثّله الصورة الجزئية للبياض هو ماهية البياض، لكان الإحساس الأول للبياض هو الإحساس الثاني بعينه، ولكننا ندرك بالواجدان -وهو مُسلَّم عند فلاسفتنا- أن الإحساس الأول غير الإحساس الثاني قطعاً.

وسؤالنا يتعلق بهذا الإحساس الخاص في كل مرة، لا بمعناه الكلي.

وعليه، يصبح جلـيـًّا أن القول بالاتحاد الماهوي بين الصور الحسّية والواقع الخارجي، فيه خَلْط بين الصور الحسّية الجزئية وبين المعقولات الكلية.

يتبع=

ـــــــــــــــــــ

([6]) السيد محمد حسين الطبطبائي : نهاية الحكمة، علق عليه الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي، توزيع دار الكتاب الإسلامي، بيروت، دون ذكر الطبعة ولا التاريخ، ص 147- 148 .

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية