العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال - نظرية المعرفة (اليحفوفي)

موقف العلامة الطباطبائي (رحمه الله):

ما أوردناه سابقًا لا يختص بالنَّصَّين اللذين نقلناهما عن العلامة السبحاني والشهيد الصدر، بل إنه يرد أيضًا على كل نص يتبنّى الاتحاد الماهوي بين الصور المحسوسة والواقع الموضوعي، فالمذهب هو المذهب، وإن اختلفَتْ الصياغة وطريقة العرض.

ولتأكيد هذا المطلب نورد نصًّا أخيرًا من النصوص التي تتبنّى موقف الاتحاد الماهوي، وهو للعلامة السيد محمد حسين الطبطبائي(رحمه الله).

يناقش العلامة الطبطبائي(رحمه الله) في كتابه (نهاية الحكمة) علماء الطبيعة في ما ذهبوا إليه من القول بأن الإحساس إنما يكون بحصول صور الأجسام بما لها من النِّسَب والخصوصيات الخارجية في الأعضاء الحاسّة، وأن هذه الأعضاء تتصرف في الصور بحسب طبائعها الخاصة فتصبح عبارة عن رسائل عصبية وموجات تنتقل إلى الدماغ عن طريق الجهاز العصبي..

يقول العلامة الطباطبائي(رحمه الله) في مناقشته لهذا الرأي:

( ومن الواضح أن هذه الصور الحاصلة المنطبعة بخصوصياتها في محل ماديّ مباينة للماهيات الخارجية، فلا مسوِّغ للقول بالوجود الذهني وحضور الماهيات الخارجية بأنفسها في الأذهان )([1]).

إلى أن يقول: (وجه الاندفاع: أن ما ذكروه من الفعل والانفعال الماديين عند حصول العلم بالجزئيات في محله، لكن هذه الصور المنطبعة ليست هي المعلومة بالذات، وإنما هي أمور مادية مُعِدَّة للنفس، تُهيِّئها لحضور الماهيات الخارجية عندها بصور مثالية مجردة غير مادية.. وقد عرفْتَ أيضًا أن القول بمغايرة الصور عند الحسّ والتخيل لذوات الصور التي في الخارج لا ينفك عن السفسطة)([2]).

وخلاصة مراده (رحمه الله) هو أن قول علماء الطبيعة بأن صور المحسوسات إنما تنطبع في العين مثلًا، وتكون في العين أصغر مما هي عليه في الخارج، ثم تنتقل الى الدماغ بعد أن تتحول إلى موجات ورسائل عصبية، فإذا كانت الصورة المحسوسة هي هذا الأثر المادي الذي ينتهي الى الدماغ، فيلزم أن لا تحضر الماهيات الخارجية بأنفسها في الأذهان، وذلك لأن ما حدث من تحوّل وتغيير عبر الأعضاء الحاسة وعبر الجهاز العصبي، يلزم منه أن لا تحضر الماهيات الخارجية في الأذهان.

وهو يسلِّم ما يحدث من تحول وتغيير مادّيين عند الإدراك الحسّي، ولكنه يرى أن تلك الصور المادية التي جرى فيها التغيير ليست هي المعلومة بالذات كي يقال إن ما تمّ إدراكه تُغايِر ماهيتُه الماهياتِ الخارجية، وإنما تلك الصور المادية ليست سوى مُعِدَّات للنفس تهيئها لحضور الماهيات الخارجية عندها، والصور التي تدركها النفس ليست صورًا مادية، بل هي صور مثالية مجردة، توجدها النفس من خلال المعدّات المادية، وما جرى من تحوّل وتغيير خلال الحوادث المادية في عملية الإدراك لا يؤثر في هذه الصورة المثالية، بل إن النفس بعد هذه السلسلة من العمليات المادية التي تجري أثناء عملية الإدراك تعود فتصنع بتوسط تلك العمليات المادية صورة مجردة تتحد ماهية مع ماهية الموجودات الخارجية، ولو كانت هذه الصورة مغايرة لما في الخارج للزمت السفسطة.

ويـَرِدُ على ما ذهب إليه العلامة الطباطبائي (رحمه الله) عَيْن ما أُورد سابقًا، إذ بعد تسليم ما ذكره (رحمه الله) من كون الصور المنطبعة ليست هي المعلومة بالذات، وإنما هي أمور مادية تهيّئ النفس لإدراك صورة مجردة، إلا أنه يمكن أن يقال في المقام: إن كون هذه الصور مجردة لا يخرجها عن كونها صورًا جزئية -كما يعتقد العلامة الطباطبائي نفسه- وعليه فيَرِد السؤال: إذا كانت هذه الصور جزئية، فما هو معنى الماهية في قوله: (لكن هذه الصور المنطبعة ليست هي المعلومة بالذات، وإنما هي أمور مادية مُعِدَّة للنفس، تهيِّئها لحضور الماهيات الخارجية عندها)؟

فإذا كان المراد هو المعنى المصطلح للماهية: فإنه يرد عليه عين ما أوردناه في مناقشتنا للنصين السابقين من السؤال عن معنى الماهية بالنسبة للصور الجزئية، أما إذا كان المراد معنى آخر، فهو غير بيِّن ولا يُعرف المقصود منه.

ولذا فإن الموقف في حديث الاتحاد الماهوي يبقى على إجماله([3]).

نصّ الأسس المنطقية للاستقراء:

ذكرنا سابقًا أن بعض النصوص قد تبنّت القول بمطابقة الصور المحسوسة للواقع، ولكنها لم تبيّن طبيعة هذه المطابقة وهل هي على أساس الاتحاد الماهوي أم على أساس آخر، ووعَدْنا هناك بإيراد نص كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، وقد آن الأوان لبيان ذلك.

يقول الشهيد الصدر(رحمه الله) في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء تحت عنوان (الاعتقاد بالتشابه بين المحسوس والواقع):

( ورغم الثنائية بين الصور المحسوسة والواقع الموضوعي، نتّجه إلى الاعتقاد بأن صفة التربيع التي نلاحظها في الصورة المحسوسة ثابتة في الواقع الموضوعي لتلك الصورة المحسوسة.

ولا شك في أن الإنسان الاعتيادي يذهب إلى الاعتقاد بدرجة كبيرة من التطابق والتشابه بين الصورة  المحسوسة والواقع الموضوعي، بينما تتناقص هذه الدرجة كلما أخذ بعين الاعتبار ما يكشفه العلم من الجوانب الذاتية لعملية الإدراك الحسي، ولكن يبدو أن هناك درجة من التشابه بين الصور المحسوسة والواقع الموضوعي لا يمكن التنازل عن الاعتقاد بها، ففيما نراه من أجسام بشكل دائري -مثلًا- لا نحتمل عادة أن الشكل الهندسي الواقعي هو التربيع بدلا عن الاستدارة، رغم أنّا لا نملك أي مبرر قَبْلي -أي قبل الحسّ والتجربة- للتأكيد على أن كل واقع موضوعي لا بد أن يثير صورة محسوسة لها نفس الخصائص الهندسية التي يتمتع بها ذلك الواقع، إذ لا يوجد أي تناقض منطقي في افتراض أن المربع يثير في إدراكنا الحسي صورة لها شكل دائري)([4]).

ثم يبيِّن(رحمه الله) بعد ذلك أن هذا الاعتقاد بالمطابقة يرجع إلى الاستقراء، ويبيّن الدليل الاستقرائي على ذلك .

ويقول في موضع آخر: ( أثبتنا أن الواقع الموضوعي للصورة المحسوسة يشابهها في كثير من الخصائص )([5]).

ويقول أيضا: (ما دمنا قد عرفنا أن كل صورة محسوسة تشابه الشيء الذي أثارها في الواقع الموضوعي)([6]).

وخلاصة ما يفهم من مذهبه هنا، هو أن الصورة المحسوسة تشابه الشيء الذي أثارها في الواقع الموضوعي، وهذا التشابه هو تشابه في الكثير من الخصائص، لا في كل الخصائص، ولكن هذه الكثرة لا تعني الاعتقاد بدرجة كبيرة من التطابق والتشابه -كما يظنه الإنسان الاعتيادي- بل هي درجة من الدرجات لا يمكن التنازل عن الاعتقاد بها.

والملاحظة التي يمكن تسجيلها فيما يهمّ بحثنا هي:

أن الشهيد الصدر مع أنه لم ينص على الاتحاد الماهوي فيما يخص مطابقة الصور المحسوسة للواقع بحيث لا يمكن مناقشة كلامه هنا بعين المناقشات السابقة التي أوردناها على نظرية الاتحاد الماهوي، إلا أنه (رحمه الله) لم يبين طبيعة التطابق والتشابه، ولا الأساس الذي يقوم عليه، وإنما اكتفى بذكر أمور عامة من قبيل: ( كثير من الخصائص.. درجة من التشابه لا يمكن التنازل عنها.. ).

أما ما هي الخصائص الكثيرة التي يتمّ بها التشابه ؟ وما هي الخصائص الباقية التي لا يوجد فيها مثل هذا التشابه، فلم يبينه (رحمه الله) ؟

وعليه فإن الإجمال في نظرية مطابقة المحسوسات للواقع الموضوعي يبقى على حاله([7]).

الخلاصـة:

اتضح من العرض السابق عدم وجود نظرية واضحة المعالم فيما يتعلق بالمحسوسات، وأن النظريات المطروحة تعاني جوانب من النقص، حيث إن القول بالاتحاد الماهوي ملتبس المعنى، فلا يعرف المراد بمصطلح الماهية، وإذا كان المراد هو المعنى الشائع فلازمه اختلاط المدركات الحسّية بالمدركات العقلية، كما أن القول بوجود درجة من المطابقة غير واضح المعالم ولا مفهوم الحدود.

وإذا كانت نظرية المعرفة هي الأساس الذي يقوم عليه كل بناء نظري، وتبتني عليه كل عقيدة،  فمن الجدير إذًا أن تعقد العزائم وتشحذ الهمم لمحاولة بناء نظرية واضحة المعالم، راسخة الأسس، متماسكة البناء، ولابد من أن تنطلق هذه النظرية من دراسة المحسوسات أولاً، ثم تعالج بعد ذلك غيرها من التصورات، وهو ما يستدعيه الترتيب المنطقي للأمور، إذ إن التصورات الأخرى إنما تنطلق من المحسوسات، أو تكون المحسوسات من شروطها، ويأتي بعد ذلك دور التصديقات التي تتخذ من التصورات موضوعات لها.

ولا بد من السير في البحث خطوة خطوة، وبصورة واضحة في كل واحدة من هذه الخطوات.

لذا، ومراعاة للوضوح فقد تركز هذا البحث على نقطة واحدة لم يتجاوزها، ومن هنا كان عدم التعرض للأدلة التي أقامها فلاسفتنا المحدّثون على نظرية المطابقة، إذ من المنطقي أن يُعرف أولاً معنى النظرية قبل مناقشة الأدلة المقامة لإثباتها.

ونرجو من المولى سبحانه التوفيق لمناقشة تلك الأدلة في بحث آخر.

هذا، ويبقى العديد من النقاط في هذه المسألة بحاجة إلى بحث، مثلا: هل من الضروري للحفاظ على (قيمة المعرفة) -في الفلسفة الواقعية- التمسك بنظرية المطابقة في المحسوسات ؟

أم يكفي أن تكون موجودات العالم الموضوعي منبّهات فقط، ولكنها منبّهات تعطي الأثر نفسه في الشروط ذاتها؟

ومع وجود مطابقة في بعض المحسوسات، فهل من اللازم أن توجد تلك المطابقة في المحسوسات جميعها ؟

وعلى فرض وجود التشابه بين الصور الحسّية والواقع الموضوعي، في بعض المحسوسات أو في جميعها، فما هو محور هذا التشابه ؟

بعضٌ من أسئلة، وأسئلة أخرى عديدة... لا بد من تنظيم الجهود وتضافرها لمحاولة الإجابة عليها.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) المصدر السابق، ص 92 .

([2]) المصدر السابق، ص 92 .

([3]) وأما قضية لزوم السفسطة في حال القول بمغايرة الصور عند الحس لذوات الصور التي في الخارج، فله مجال آخر خارج هذا المجال.

([4]) السيد محمد باقر الصدر : الأسس المنطقية للاستقراء ، الطبعة الثانية ، دار التعارف ، بيروت، 1397هـ – 1973م، ص 465- 466 .

([5]) المصدر السابق، ص 468 .

([6]) المصدر السابق، ص 468 .

([7]) قد لا يكون اهتمام كتاب الأسس المنطقية منصبّاً على بيان نظرية المطابقة ، وإنما نظره الأول إلى قيام المطابقة على أساس استقرائي ، ولكننا أردنا من إيراد نصوصه لفت الانتباه إلى عدم وجود نظرية واضحة  لدى فلاسفتنا حول واقعية المحسوسات .

وقد بحث الشهيد الصدر هذا الأمر مفصلا في كتاب (فلسفتنا) ، ولكنه قال هناك بالاتحاد الماهوي كما بيّناه وأوردنا عليه بعض المناقشات .

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية