العدد صفر : 2005 م -1425هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = التمهيد ليوم الغدير

وغير ذلك من آيات تنظم تعاملهم، وتضع الحدود، وترسم معالم السلوك معه (صلى الله عليه وآله)، مما يكون الفسق والخروج عن الدين، في تجاهله، وفي تعديه.

هذا إلى جانب اعترافهم بما له (صلى الله عليه وآله) من فضل عليهم، وأياد لديهم، فإنه هو الذي أخرجهم ـ بفضل الله: من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، وأبدلهم الذل بالعز، والشقاء بالسعادة، والنار بالجنان.

مع أنهم يدعون: أنهم قد جاؤوا مع هذا الرسول الأكرم والأعظم، في هذا الزمان الشريف، إلى هذا المكان المقدس ـ عرفات ـ لِعبادة الله سبحانه، وطلب رضاه، معلنين بالتوبة، وبالندم على ما فرطوا في جنب الله، منيبين إليه سبحانه، ليس لهم في حطام الدنيا، وزخارفها، مطلب ولا مأرب.

ولكن مع ذلك كله: فقد رأى الجميع بأم أعينهم: كيف أن حركة بسيطة منه (صلى الله عليه وآله) قد أظهرتهم على حقيقتهم، وكشفت خفيّ مكرهم، وخادع زيفهم، ورأى كل أحد كيف أنهم: قد تحولوا إلى وحوش كاسرة، ضد نبيهم بالذات، وظهر كيف أنهم لا يوقرون رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويرفعون أصواتهم فوق صوته، ويجهرون له بالقول أكثر من جهر بعضهم لبعضهم، ويعصون أوامره، كل ذلك رغبة في الدنيا، وزهدًا في الآخرة، وطلبًا لحظ الشيطان، وعزوفًا عن الكرامة الإلهية، وزهدًا برضى الرحمن.

8 ـ وعلى هـذه فـقـس مـا سـواهـا:

وإذا كان هؤلاء لا يتورعون عن معاملة نبيهم بهذا الأسلوب الوقح والقبيح، فهل تراهم يوقرون من هو دونه، في ظروف وحالات لا تصل إلى حالاتهم معه (صلى الله عليه وآله)، ولا تدانيها؟!.

وماذا عسى أن يكون موقفهم ممن طفحت قلوبهم بالحقد عليه، ولهم قِبَلَهُ ترات وثارات الذين قتلهم على الشرك من أسلافهم، وهو الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه.

وهكذا.. فإنه يكون (صلى الله عليه وآله) قد أفقدهم، وأفقد مؤيديهم كل حجة, وحرمهم من كل عذر، سوى البغي والإصرار على الباطل، والجحود للحق؛ فقد ظهر ما كان خفيًا، وأسفر الصبح لذي عينين، ولم يعد يمكن الإحالة، على المجهول، بدعوى: أنه يمكن أن يكون قد ظهر لهم ما خفي علينا.

أو أنهم ـ وهم الأتقياء الأبرار ـ لا يمكن أن يخالفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا أن يبطلوا تدبيره، ويخونوا عهده، وهو لماّ يُدفن.

أو أن من غير المعقول: أن تصدر الخيانة من أكثر الصحابة؟! أو أن يسكتوا بأجمعهم عليها.

وما إلى ذلك من أساليب، يمارسها البعض لخداع السذج والبسطاء، ومن لا علم لهم بواقع أولئك الناس، ولا بمواقفهم.

فإن كل هذه الدعاوى قد سقطت، وجميع تلكم الأعذار قد ظهر زيفها وبطلانها، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.

ظهور الأحقاد والمصارحة المرة:

وإذا تابعنا سياق الأحداث بعد أن جرى ما جرى منهم معه (صلى الله عليه وآله) في منى وعرفات فسنجد: أنه بعد أن تأكد لديهم إصرار النبي (صلى الله عليه وآله) على جعل الأمر في أهل بيته، ولعلي (عليه السلام) على وجه الخصوص، قد ظهر الحقد والبغض على وجوههم، وفي حركاتهم وتصرفاتهم، وعلى مجمل مواقفهم. وصاروا يعاملون رسول الله (صلى الله عليه وآله) معاملة غريبة، وبصورة بعيدة حتى عن روح المجاملة الظاهرية.

وقد واجههم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذه الحقيقة، وصارحهم بها، في تلك اللحظات بالذات. ويتضح ذلك من النص الذي يقول:

عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزل بخم فتنحى الناس عنه، ونزل معه علي بن أبي طالب، فشق على النبي تأخر الناس، فأمر عليًا، فجمعهم، فلما اجتمعوا قام فيهم متوسدًا [يد] علي بن أبي طالب، فحمد الله، وأثنى عليه.. ثم قال:

«أيها الناس، إنه قد كَرِهْتُ تخلفكم عني، حتى خُيِّلَ إلي: أنه ليس شجرة أبغض إليكم من شجرة تليني»([1]).

وروى ابن حبـان بسند صحيح على شرط البخاري ـ كما رواه آخرون بأسانيد بعضها صحيح أيضًا:

إنه حين رجوع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة، ـ حتى إذا بلغ الكديد أو [قدير جعل ناس من أصحابه يستأذنون، فجعل (صلى الله عليه وآله) يأذن لهم.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«ما بال شق الشجرة التي تلي رسول الله أبغض إليكم من الشق الآخر؟».

قال: فلم نر من القوم إلا باكيًا.

قال: يقول أبو بكر: « إن الذي يستأذنك بعد هذا لسفيه في نفسي الخ..»([2]).

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــ

([1]) راجع: مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص25 ؛ والعمدة لابن البطريق ص107 ؛ والغدير ج1 ص22 عنه وعن الثعلبي في تفسيره، كما في ضياء العالمين.

([2]) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج1، ص444 ومسند أحمد ج4 ص16 ؛ ومسند الطيالسي ص182 ؛ ومجمع الزوائد ج10 ص408، وقال: رواه الطبراني والبزاز بأسانيد رجال بعضها عند الطبراني والبزاز رجال الصحيح ؛ وكشف الأستار عن مسند البزار ج4 ص206، وقال في هامش [الإحسان]: إنه في الطبراني برقم: 4556 و 4559 و 4557 و 4558 و 4560.

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية