العدد صفر : 2005 م -1425هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = التمهيد ليوم الغدير

التدخل الإلهي:

ثم جاء التهديد الإلهي لهم، فحسم الموقف، وأبرم الأمر، وظهر لهم أنهم عاجزون عن الوقوف في وجه إرادة الله، القاضية بلزوم إقامة الحجة على الناس كافة، بالأسلوب الذي يريده الله ويرتضيه. وأدركوا: أن استمرارهم في المواجهة السافرة قد يؤدي بهم إلى حرب حقيقية، مع الله ورسوله، وبصورة علنية ومكشوفة.

فلم يكن لهم بد من الرضوخ، والانصياع، لا سيما بعد أن أفهمهم الله سبحانه: أنه يعتبر عدم إبلاغ هذا الأمر بمثابة عدم إبلاغ أصل الدين، وأساس الرسالة، وأن معارضتهم لهذا الإبلاغ، تجعلهم في جملة أهل الكفر، المحاربين، الذين يحتاج الرسول إلى العصمة الإلهية منهم.

وهذه الأمور الثلاثة قد تضمنتها الآية الكريمة التي حددت السياسة الإلهية تجاههم:

{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ الله لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ}([1]).

والتركيز على هذه الأمور الثلاثة معناه: أن القرار الإلهي هو أنه تعالى سوف يعتبر عدم تبليغ هذا الأمر للناس بصورة علنية أنه عودة إلى نقطة الصفر، وخوض حروب في مستوى بدر، وأحد والخندق، وسواها من الحروب التي خاضها المسلمون ضد المشركين، من أجل تثبيت أساس الدين وإبلاغه.

ومن الواضح لهم: أن ذلك سوف ينتهي بهزيمتهم وفضيحتهم، وضياع كل الفرص، وتلاشي جميع الآمال في حصولهم على امتياز يذكر، أو بدونه، حيث تكون الكارثة بانتظارهم، حيث البلاء المبرم، والهلاك والفناء المحتّم.

فآثروا الرضوخ ـ مؤقتًا ـ إلى الأمر الواقع، والانحناء أمام العاصفة، في سياسة غادرة وماكرة.. ولزمتهم الحجة، بالبيعة التي أخذت منهم له [عليه السلام] في يوم الغدير. وقامت الحجة بذلك على الأمة بأسرها أيضًا، ولم يكن المطلوب أكثر من ذلك. وكان ذلك قبل استشهاده(صلى الله عليه وآله)بسبعين يومًا..

وخلاصة القول: إن هؤلاء أنفسهم حينما رأوا جدية التهديد الإلهي، قد سكتوا حينما كان النبي (صلى الله عليه وآله) يعلن إمامة علي [عليه السلام] في غدير خم؛ فلم نجد منهم أية بادرة خلاف، إلا فيما ندر من همسات عابرة، لا تكاد تسمع.

وقد بادر هؤلاء أنفسهم إلى البيعة له [عليه السلام].. وإن كانوا قد أسروا وبيتوا ما لا يرضاه الله ورسوله، من القول والفعل، والنية والتخطيط. الذي ظهرت نتائجه بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو (صلى الله عليه وآله) لما يدفن، بل وقبل ذلك، حينما تصدى بعضهم لمنع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من كتابة الكتاب بالوصية لعلي [عليه السلام]، حينما كان النبي (صلى الله عليه وآله) على فراش المرض، في ما عرف برزية يوم الخميس! وقال قائلهم: إن النبي ليهجر! أو: غلبه الوجع!([2]).

ثم أخذوا هذا الأمر من صاحبه الشرعي بقوة السلاح، وارتكبوا في هذا السبيل جرائم وعظائم، وانتهكوا لله حرمات..

ولكن بعد أن قطع النبي (صلى الله عليه وآله) عذرهم، وفضح أمرهم، في ضمن سلسلة إجراءات ومواقف فاجأهم بها، وأظهر للناس دخائلهم، ورأوا بأم أعينهم أن شيئًا لم يتغير فيهم، وذلك مثل:

قضية تجهيز جيش أسامة، وعزل أبي بكر عن الصلاة، وطلب كتابة الكتاب، فيما عُرف برزية يوم الخميس، حيث قال قائلهم: إن النبي ليهجر كما أسلفنا..

وكل ذلك قد كان في الأيام الأخيرة من حياته (صلى الله عليه وآله)، بحيث لم يبق مجال لدعوى الإنابة والتوبة، أو الندم على ما صدر منهم، ولا لدعوى تبدل الأوضاع والأحوال، والظروف والمقتضيات، ولا لدعوى تبدل القرار الإلهي النبوي، ولا لغير ذلك مما قد يتوسلون به لخداع الناس في هذا المجال.

الـخـير في مـا وقـع:

وأخيرًا.. فإن ما جرى في عرفة، ومنى، وإظهار هؤلاء الناس على حقيقتهم، وما تبع ذلك من فوائد وعوائد أشير إليها، قد كان ضروريًا ولازمًا، للحفاظ على مستقبل الدعوة، وبقائها، فقد عرفت الأمة الوفي والتقي، من المتآمر والغادر، والمؤمن الخالص، من غير الخالص، وفي ذلك النفع الكثير والخير العميم. {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}([3]). وصدق الله ورسوله، وخاب من افترى.. {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}([4]).

انتهى

ـــــــــــــ

([1]) الآية 67 من سورة المائدة.

([2]) الإيضاح: ص 359 ؛ وتذكرة الخواص: ص62 ؛ وسر العالمين: 21 ؛ وصحيح البخاري ج3 ص60 وج4 ص5 و 173 وج 1 ص21 ـ 22 وج 2 ص 115 ؛ والمصنف للصنعاني ج6 ص57 وج 10 ص361 وراجع ج5 ص 438 ؛ والإرشاد للمفيد ص107 ؛ والبحار ج22 ص 498 ؛ وراجع: الغيبة للنعماني ص 81 ـ 82 ؛ وعمدة القاري ج 14 ص298 ؛ وفتح الباري ج8 ص101 و 102 ؛ والبداية والنهاية ج5 ص227 ؛ والبدء والتاريخ ج5 ص59 ؛ والملل والنحل ج1 ص22 ؛ والطبقات الكبرى ج2 ص244 ؛ وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص192 ـ 193 ؛ والكامل في التاريخ ج2 ص320 ؛ وأنساب الأشراف ج1 ص562 ؛ وشرح النهج للمعتزلي ج6 ص51 ؛ وتاريخ الخميس ج2 ص164 ؛ وصحيح مسلم ج ص75 ؛ ومسند أحمد ج1 ص324 و 325 و355 ؛ والسيرة الحلبية ج3 ص344، ؛ ونهج الحق ص273 ؛ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 قسم2 ص62 ؛ وراجع: حق اليقين ج1 ص181ـ 182 ؛ ودلائل الصدق ج3 قسم1 ص63 ـ 70 ؛ والصراط المستقيم ج3 ص3 و 6 ؛ والمراجعات 353 ؛ والنص والإجتهاد 149 ـ 163.

([3]) الآية 19 من سورة النساء.

([4]) الآية 10 من سورة الفتح.

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية