واللافت في
سفر دانيال أنه لم يتكلم عن ملك لبني اسرائيل، ولم يعطهم
أيّة خصوصية على سائر الشعوب، كما هو الحال في أسفار العهد
القديم الأخرى، بل كان يتحدّث أو يحدّثه جبرئيل بعنوان ابن
آدم([1])،
كما أن كلمة "ابن الإنسان" المتقدمة، والواردة في سياق من
تتعبّد له كل الشعوب والأمم والألسنة، فقد وردت بعنوان "بارناشا"
الآرامية، والتي تعني ابن آدم([2]).
وهذا إن دلّ
على شيء فإنما يدل على عدم وجود خصوصية لبني اسرائيل في
الملكوت الآتي، مع أن النبي دانيال كان من أنبيائهم زمن
السبي البابلي، الأمر الذي يظهر مدى حاجتهم إلى ما يسلّيهم
في وحدتهم، ويرفع عنهم مرارة الواقع، ولو عن طريق زرع
الأمل فيهم، ومع ذلك لم يمنّهم بأي أمل ليس لهم شأن فيه.
ولعل السيد
المسيح
(عليه
السلام)
قد أشار إلى
هذه الحقيقة بالذات، حين خاطب اليهود بقوله: "لذلك أقول
لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمّة تعمل أثماره"([3]).
إن عمل
أثمار الملكوت لا يعني سوى تطبيقه، وإقامة العدل في الأرض،
وقد بيّن السيد المسيح
(عليه
السلام)
المراد بهذه
الحقيقة حين قال لهم في نفس السياق: "أمَا قرأتم الكتب،
الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قبل
الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا"([4]).
والحجر الذي
رفضه البنّاؤون لم يكن سوى إسماعيل
(عليه
السلام)،
الابن البكر لإبراهيم
(عليه
السلام)،
والذي عمل اليهود جاهدين، تبعًا لكاتب التوراة، على حرمانه
من حقوقه التي منحه الله تعالى إياها، لا شيء إلا لأنه
يستلزم حرمانهم من حقوق يزعمونها لأنفسهم وهذه مسألة أخرى
تحتاج إلى بحث في مقام آخر.
ومهما يكن
من أمر، فإن حمل الملكوت على المعنى الروحي والنفسي لا
يمكن قبوله ولا الالتزام به، بل لا بد من الالتزام بأنه
ملكوت أرضي يتحدث عن حكومة آخر الزمان الإلهية، انسجامًا
مع النصوص الإنجيلية نفسها، ووفاقًا لما كان عليه
المسيحيون في العصر الأول بعد المسيح، الذين كانوا ينتظرون
عودة المسيح إلى الأرض ليحكم العالم في أيامهم([5]).
وبحسب تعبير
ول ديورانت: "كان الاعتقاد بنزول المسيح ليطهّر الارض
ويقيم ملكوت الله ويبعث الناس بأجسادهم، وبعودته إلى
الأرض، هو القاعدة الأساسية للدين المسيحي في أوائل عهده"([6]).
وقد ادّعى
عدد من الاشخاص بعد السيد المسيح
(عليه
السلام)
أنهم
الفارقليط الذي أخبر عنه يسوع بأنه سيأتي ليقيم ملكوت
السماوات([7])،
مما يدلّ على أن المراد بالملكوت هو حكومة آخر الزمان كان
واضحًا لديهم.
ولعل كل ما
تقدم وما سيأتي، من البشارة بالملكوت الآتي، هو الذي دعا
بولس إلى زعم أن الإنجيل سرّ لا يفهمه، ولهذا طلب من الناس
أن يدعو له ليفهمه، فيقول: "وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح
الذي هو كلمة الله، مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح
وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة لأجل جميع القديسين،
ولأجلي لكي يعطى لي كلام عند افتتاح فمي لأعلم جهارًا بسرّ
الإنجيل"([8])،
وذلك أن كلمة الإنجيل تعني البشارة نفسها كما يفسرها
المسيحيون أنفسهم، وتدل عليه عبارات الأناجيل.
أدلة وقرائن أخرى:
قلنا إن
مختلف فصول الأناجيل تشتمل على قرائن وأدلة تبين أن وظيفة
السيد المسيح
(عليه
السلام)
كانت عبارة
عن البشارة باقتراب ملكوت السماوات، وأن من يقيم هذا
الملكوت نبي آخر غيره، وليس من بني إسرائيل، بل من إخوتهم،
وقد أمر تلاميذه بالكرازة والوعظ، كما كان يفعل سواء عندما
أرسلهم إلى المدن الإسرائيلية في حياته، وقال لهم: "إلى
طريق أمم لا تمضوا والى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل
اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة، وفيما أنتم
ذاهبون أكرزوا قائلين إنه قد اقترب ملكوت السماوات"([9])،
وكذلك عند ارتفاعه وانتهاء مهمته، عندما تجلّى لأصحابه
فقال لهم: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الأب
والروح القدس، وعلّموهم
أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به"([10])،
وبحسب إنجيل مرقس فإن هذه الوصية كانت أوضح وأصرح: "وقال
لهم اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة
كلها"([11])،
وتقدم قبل قليل أن كلمة الإنجيل تعني بشارة الملكوت.
إضافة إلى
ما تقدم نذكر بعض القرائن الأخرى التي تدل على أن المراد
بالملكوت ملكوت أرضي زماني سيأتي في المستقبل القريب وعلى
أساسه تقام حكومة آخر الزمان الإلهية:
فمنها:
الصلاة التي أمر التلاميذ، ومن ورائهم كل من آمن به، أن
يصلوها، وهي الأخرى تختصر دعوته ووظيفته، فقال لهم:
"فصلّوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك
وليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"([12])،
فلو كان يعني نفسه من إقامة الملكوت، أو كان يتحدث عن
ملكوت روحي، كما يقوله المسيحيون، لم يكن لهذه الصلاة أي
معنى لأنه سيكون دعاء لتحصيل ما هو حاصل كما هو واضح.
ومنها:
أنه في نفس السياق أوصى تلاميذه أن يطلبوا من الله
تعالى أن يحقق ملكوت السماوات، وهو يدل على أن الملكوت لم
يتحقق في زمانه، ولا على يديه، حيث يقول لهم: "فلا تهتموا
قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس، فإن كل هذه
تطلبها الأمم، لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى
هذه كلها، لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذه كلها
تزاد لكم"([13]).
ومنها:
أنه عندما سكبت امرأة قارورة طيب على رأسه، واغتاظ تلاميذه
اعتقادًا منهم أنه إتلاف للمال، إذ كان يمكن بيعه وإعطاء
ثمنه للفقراء، قال لهم: ".. الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا
الإنجيل في كل العالم يخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكارًا
لها"([14]).
ومنها:
أنه في حديثه عن آخر الزمان، وأن ملكوت السماوات في
ذلك الحين، قال لتلاميذه: " ولكن الذي يصبر إلى المنتهى
فهذا يخلص، ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة
لجميع الأمم، ثم يأتي المنتهى"([15]).
ولا نرى
حاجة للتأكيد على أن بشارة الملكوت هذه عامّة لجميع الأمم،
وليست خاصة في بني إسرائيل كما هو الحال في رسالة السيد
المسيح
(عليه
السلام)،
القائل: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة"([16])،
وبحسب شهادة إنجيل يوحنا "إلى خاصّته جاء"([17]).
وهذا
التعليم هو نفسه الوصية التي أوصى بها تلاميذه، عندما
تجلّى لهم، وطلب منهم أن يكرزوا في جميع العالم باقتراب
ملكوت السماوات، في إشارة ذات دلالة على أن نبي آخر الزمان
مبعوث لجميع الأمم، وليس إلى فئة خاصة كما كان يتصوره
اليهود.
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([2])
تعليق الآباء اليسوعيين على الفقرة، العهد القديم،
ص1875، هامش رقم 11.
([5])
تاريخ الكنيسة، جون لوريمر، ج1 ص86.
([6])
قصة الحضارة ج11 ص242.
([7])
المسيح في الانجيل - بحث في لاهوته وناسوته -
ص185.
([8])
الرسالة إلى أهل افسس: 6/17-19.
([11])
إنجيل مرقس: 16/15.
([12])
إنجيل متى: 6/9-10.
([15])
إنجيل متى: 24/13-14.
|