العدد الثاني / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال =

من يقيم الملكوت:

وما دامت وظيفة السيد المسيح (عليه السلام) مقتصرة على الكرازة والوعظ, والبشارة باقتراب ملكوت السموات, مع تأكيده أكثر من مرة أن مقيم الملكوت غيره, فلا بد من ملاحظة ما إذا كان مقيم الملكوت هذا ظاهر المعالم والشخصية في خطابه, أم أنه ترك الأمر مبهمًا, وقابلاً للتأويلات والاجتهادات المتعددة, مما يفسح في المجال ليتقوّل المتقوّلون ما شاؤوا, في ما يتعلق بهذه المسألة.

لا بد قبل كل شيء, من ملاحظة أن بشارته (عليه السلام) كانت عبارة عن "اقتراب الملكوت", وهي ظاهرة بل صريحة بأنه لم يحن وقت الملكوت بعد, وأن زمانه قد اقترب, وهذا ما اتفقت عليه كلمة الأناجيل, حيث لم يرد أن السيد المسيح (عليه السلام) مقيم لهذا الملكوت بنفسه, ولا هو حاصل في زمانه, وهذا يشكّل قرينة هامّة على عدم صحة التفسير المسيحي للملكوت.

تواجهنا في المقام عدة آيات قرآنية شريفة، تتحدث عن أن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي (صلى الله عليه وآله) معرفة تفصيلية، ناشئة من وجود اسمه وصفته في التوراة والإنجيل:

منها: قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} ([1]).

ومنها: قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}([2]).

ومنها: قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}([3]).

ومنها: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}([4]).

والمستفاد من هذه الآيات الشريفة، وكذلك من غيرها، أن معرفة أهل الكتاب بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) كانت معرفة يقينية وتفصيلية، ذلك أن معرفة الإنسان بأبنائه ويقينه بهم في قمّة هرم المعرفة، لحضورهم الدائم معه، رافقهم منذ ولادتهم, وعرف كل تفاصيل شؤونهم وشخصياتهم، فإذا كانوا يعرفون النبي بمستوى معرفتهم لأبنائهم، فهو قمة المعرفة واليقين به.

إن هذه المعرفة التفصيلية بصفة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وشخصه ناشئة من إخبار أنبيائهم به وتأكيدهم على  هذه المعرفة، حتى وصلت إلى حدّ تكون معرفتهم به بمستوى معرفتهم لأبنائهم، ولم يقتصر هذا الإخبار على الشفهي منه، وإنما ورد التأكيد عليه في التوراة والإنجيل، لكي لا يبقى عذر لمعتذر، ولا حجّة لمتأول، بدعوى عدم وصول خبره إليهم، نتيجة تقادم الزمان، وكتمان الأمر عنهم، وهو ما صرّحت به الآية المباركة الأخيرة، حيث ورد فيها {يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل}، فان التعبير بالإيجاد يعني أنه لا يحتاج إلى أكثر من الرجوع إلى هذين الكتابين والتأمّل فيهما، بعيدًا عن التعصّب، والخلفيات الثقافية التي تربّوا عليها، وإنما بالنظرة الفاحصة والموضوعية، والباحثة عن الحق، وهذا الإيجاد ليس خاصًّا بزمان دون زمان، بل هو مستمرٌ ما دام هناك توراة وإنجيل، وما دام هناك باحثون عن الحق كذلك، كما يعطيه التعبير بصيغة الفعل المضارع الدّال على التجدد والاستمرار.

والسؤال الذي يواجهنا هنا: هل نجد ما يصدّق هذه الآيات الشريفة في التوراة والإنجيل من بشارة بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، لتتمّ الحجة على اتباع الديانتين، كما قال تعالى: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}([5]).

وفي مقام الإجابة سنقتصر على الحديث في الإنجيل، الذي انحصرت دعوة صاحبه (عليه السلام) على هذه البشارة كما أسلفنا، وأما التوراة فسنكتفي بالنبوءة المتقدمة على لسان موسى (عليه السلام)، والتي حاول المسيحيون تطبيقها على السيد المسيح (عليه السلام)، ورأينا أنه لم يكن تطبيقًا موفّقًا.

النبي الموعود:

إن الخطأ الأكبر الذي وقع به المسيحيون هو تطبيق عناوين النبي والملك والكاهن على السيد المسيح (عليه السلام)، ذلك أنهم علموا أن نبي آخر الزمان يتصف بهذه الصفات الثلاثة مجتمعة، فحاولوا نسبتها إلى السيد المسيح (عليه السلام)، دون أن يلتفتوا إلى أن ذلك مخالف لصريح قانون الكتاب المقدس، الذي حصر الملك في نسل يهوذا، والكهنوت والنبوءة بأبناء هارون من نسل لاوي في بني إسرائيل، كما هو مخالف للواقع التاريخي الذي قامت عليه سيرة اليهود.

وقد صدر الأمر التوراتي بأن لا يتزوج كل رجل إلا من سبط أبيه، ولا يتعدّاه إلى سواه، وعلّل هذا الأمر بقوله: "فلا يتحول نصيب لبني إسرائيل من سبط إلى سبط، بل يلازم بنوا إسرائيل كلُّ واحد نصيب سبط آبائه، وكل بنت ورثت نصيبًا من أسباط بني إسرائيل تكون امرأة لواحد من عشيرة سبط أبيها، لكي يرث بنو إسرائيل كل واحد نصيب آبائه"([6]).

وبناء على ذلك، فإن كان السيد المسيح (عليه السلام)من نسل يهوذا كما ذهب إليه المسيحيون فلا يحق له النبوءة ولا الكهنوت وإنما له الملك، وأما إذا كان من نسل سبط هارون كما هو الحق فهو نبي وليس ملكًا.

إن منشأ هذا التطبيق الخاطئ هو أن كلمة المسيح, قد وردت في الكتاب المقدس بهذه المعاني الثلاثة أعني الملك والنبوءة والكهانة، وهي لا يمكن أن تنطبق على أحد في بني إسرائيل بصريح الكتاب المقدس.

ولقد أكّد السيد المسيح (عليه السلام)في مختلف المناسبات أنه نبي وليس ملكًا، بل إن بعض اليهود حاولوا ذات مرة أن يخطفوه ليجعلوه ملكًا عليهم، بعدما رأوا ما صنعه من معجزات ففر منهم وانصرف([7])، بل قد امتنع من القضاء بين المتخاصمين، قائلاً لمن جاء شاكيًا على أخيه، "يا إنسان من أقامني عليكما قاضيًا أو مقسمًا!؟"([8])، كما امتنع عن إقامة الحدّ على المرأة الزانية([9])، مع أن لهذه المشاكل أحكامًا في شريعة موسى (عليه السلام) يجب تنفيذها.

وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أنه (عليه السلام) أراد أن يثبت لهم بطريقة عملية أنه مجرد بشير لإقامة ملكوت السماوات, وقد عالجنا هذه المسألة بالتفصيل في كتاب "المسيح في الإنجيل - بحث في لاهوته وناسوته-"، فيمكن لمن أراد التوسّع أكثر أن يرجع إليه هناك.

وفي مقام بيان حقيقة النبي الموعود نجد أن السيد المسيح (عليه السلام) قد استخدم كافّة الأساليب الممكنة لإظهاره لبني إسرائيل، فقد بدأ في المرحلة الأولى من دعوته الشريفة بذكر ملكوت السماوات، وبيان حقيقته، وأنه ملكوت أرضي, بمعنى أنه حكومة تدير شؤون العالم، على أساس أحكام الله تعالى، من خلال الأمثال الكثيرة، التي أوردها لهم في مواعظه، بغية تقريبه إلى الأذهان.

هذا مع أن أصل مجيء النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان مأنوسًا في أذهانهم، وكانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، وهذا ما يدل عليه عدد من النصوص، من قبيل قول الإنجيل: "وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت، فاعترف ولم ينكر، وأقرّ إني لست أنا المسيح، فسألوه إذن ماذا، إيليا أنت؟ فقال: لست أنا، النبي أنت؟ فأجاب: لا"([10]).

وهو حوار صريح بأنهم كانوا يعرفون النبي الموعود وينتظرون مجيئه، كذلك كثير من الناس لما سمعوا بشارته، التي فسرها كاتب الإنجيل خطأ بالروح القدس، "قالوا هذا بالحقيقة هو النبي، آخرون قالوا هذا هو المسيح، وآخرون قالوا ألعل المسيح من الجليل يأتي"([11]).

إن من أهم صفات النبي الموعود إنه يأتي لجميع الناس وليس إلى بني إسرائيل فقط، وهذا كانوا يعرفونه أيضاً، فإنهم بعدما رأوا معجزة من معجزاته "قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم"([12])، مع أنه كان (عليه السلام) قد نفى هذه الصفة, أعني صفة العموم في دعوته لسائر الناس, عن نفسه، حينما جاءت امرأة كنعانية متوسلة إليه أن يشفي ابنتها، فقال لها: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة"([13])، وشهد بذلك أيضاً كاتب إنجيل يوحنا حين قال: "إلى خاصّته جاء وخاصته لم تقبله"([14]).

وفي مرحلة ثانية من مراحل الدعوة بيَّن لهم أن هذا النبي ليس من بني إسرائيل أصلاً، مشيرًا إلى أنه من نسل إسماعيل (عليه السلام)، فقال لهم: "أما قرأتم في الكتب، الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية.، من قِبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره"([15]).

ولا يمكن أن يكون المراد بالأمة المسيحيين، لأن المبشرين بدعوته (عليه السلام) هم بنو إسرائيل دون سواهم، وانفصال المسيحيين عن اليهود قد تمّ في نهاية القرن الأول للميلاد([16])، بعد تدخّل بولس ودعوته غير اليهود إلى الدخول في الدين الجديد، خلافًا للحواريين وللسيد المسيح (عليه السلام).

وغير خفي أن الملكوت سيتم على يد النبي الآتي إلى العالم، والذي كان اليهود يرجون أن يكون منهم، وهذا ما تقتضيه المثلية وكون المعجزة في فمه الواردة في سفر التثنية، والتي تقول: "أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به"([17])، وتقدم الحديث عنها، فأظهر السيد المسيح (عليه السلام) بكلامه لهم أن النبي الذي سيقيم الملكوت وأمته من غير بني إسرائيل، بل هو ينتسب إلى الحجر الذي رفضه البناؤون، حيث كنَّى به عن إسماعيل (عليه السلام)، الذي حاول اليهود أن يبعدوه عن واجهة الأحداث، بكل ما أوتوا من قوّة مكر وخداع، محاولين تقديم إسحاق (عليه السلام) عليه، لا لشيء إلا لأنهم من نسله، وفي ذلك بعض كرامة لهم في ما يزعمون.

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) سورة البقرة الآية: 89.

([2]) سورة البقرة الآية: 146.

([3])سورة الأنعام الآية: 20.

([4]) سورة الأعراف الآية: 157.

([5]) الأنعام من الآية 149.

([6]) سفر العدد: 36/7-8.

([7]) إنجيل يوحنا: 6/15.

([8]) إنجيل لوقا: 12/13-14.

([9]) إنجيل يوحنا: 8/10-11.

([10]) إنجيل يوحنا: 1/19-21.

([11]) إنجيل يوحنا: 7/40.

([12]) إنجيل يوحنا: 6/14.

([13]) إنجيل متى: 15/24.

([14]) إنجيل يوحنا: 1/11.

([15]) إنجيل متى: 21/42-43.

([16]) موسوعة تاريخ اوروبا العام، ج1،ص225.

([17]) سفر التثنية: 18/18.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني    أرشيف المجلة     الرئيسية