اسم النبي في الإنجيل:
وفي المرحلة
الثالثة والأخيرة، وعلى أبواب أورشليم، في آخر رحلة له،
أعلن السيد المسيح
(عليه
السلام)
عن اسم
النبي الموعود، ولكن كتّاب الأناجيل تصرفوا به من خلال
ترجمته إلى اللغة اليونانية، كما هي عادتهم في ترجمة أسماء
الأعلام، ثم أضاف عليه النسّاخ إضافات أثّرت على فهم
معناه الأصلي، بعدما تثبتت العقائد المسيحية، التي جعلت
شخص السيد المسيح
(عليه
السلام)
محور
البشارة والدعوة.
إلا أن هذه
الإضافات، وتلك الترجمات لا تمنع من ظهور اسمه
(صلى الله عليه وآله)
في الإنجيل
مع قليل من التأمّل والدقة.
وهنا لا بد
من تسجيل ملاحظة هامة، وهي أن النبي الموعود، وعلى الرغم
من كونه محور دعوة السيد المسيح
(عليه
السلام)
وغايتها،
وتعرض لها بالبيان والشرح في أورشليم، إلا أن الأناجيل
الأزائية الثلاثة (متى, ومرقس, ولوقا) لم تذكر الخطاب
والموعظة التي ذكر فيها السيد المسيح
(عليه السلام)
اسم النبي
أصلاً، والذي ذكرها خصوص إنجيل يوحنا، وهي آخر موعظة له
قبل ارتحاله عن هذا العالم، وهذا من المفارقات الغريبة.
ينبغي أولاً
أن نستعرض النصوص التي ندّعي ورود اسمه الشريف
(صلى الله عليه وآله)
فيها، وهي
أربعة:
الأول:
"إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب
فيعطيكم معزيًّا آخر فيمكث معكم إلى الأبد"([1]).
الثاني:
"إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده
نصنع منزلاً، الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي
تسمعونه ليس لي بل للأب الذي أرسلني، بهذا كلمتكم وأنا
عندكم، وأما المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي
فهو يعلّمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلته لكم"([2]).
الثالث:
"ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح
الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي"([3]).
الرابع:
"إن لي أمورًا كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون
أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم
إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم إلا من نفسه بل كل ما يسمع
يتكلم به ويخبركم بأمور آتية"([4]).
إن محل
البحث في المقام هو كلمة "المعزي" وهي ترجمة لكلمة
"بيركليتوس" أو "باراكليتوس" اليونانية، والفرق بينهما أن
الأولى تعني محمود أو أحمد أو كثير الحمد، وأما الثانية
فتعني المدافع أو المحامي أو المعين أو المعزي الخ...
ذهب عامة
المسيحيين إلى أن الأصل اليوناني للكلمة هو "باراكليتوس"،
ولكن بعضهم اعترف بأن "بيركليتوس" واردة ومحتملة أيضاً،
ولكنه اعتبرها قراءة شاذّة للإنجيل([5]).
لقد عالجنا
هذا الموضوع بشكل موسع، في كتاب "المسيح في الإنجيل –بحث
في لاهوته وناسوته"، ولا نريد التفصيل فيه هنا، ولكنّنا
نورده على نحو الإجمال، ويمكن لمن أراد التوسع أكثر الرجوع
إليه هناك، فنقول:
إن حروف
العلة، وهي الألف والواو والياء، لم تكن موجودة في اللغة
اليونانية قبل القرن الخامس الميلادي، وعليه فإن كلمة
باركليتوس هي نفسها بيركليتوس في رسم الكلمة([6])،
وعليه فتصح قراءة الكلمة بالصيغتين بدون إشكال.
هذا مضافًا
إلى أنه لو فرض عدم صحة القراءة فيهما، فاحتمال وقوع الخطأ
في القراءة عند المتمكن في اللغة وقواعدها ممكن وطبيعي،
بعد عدم وجود فرق بينهما في الرسم، فضلاً عن غير العالم
المتمكن بها، وقد شهد المسيحيون بأن كاتب الإنجيل لم يكن
يونانيًا، بل كان يهوديًا فلسطينيًا([7])،
ولغة الإنجيل نفسه تكشف عن عدم عمق ثقافته اليونانية([8])،
فلا مجال لترجيح صيغة باراكليتوس استنادًا إلى ذلك.
إلا أن ذلك
لا يعني استواء الصيغتين في ما هو المراد من الكلمة، بل
هناك من القرائن ما يدل على أن الصحيح هو كلمة بيركليتوس
الواردة في النص، والتي تعني "أحمد".
منها: أن
كلمة المعزي وأخواتها المستخدمة في الترجمة العربية للنص،
على أساس أن الكلمة في اليونانية هي "باراكليتوس" هي صفات،
بخلاف كلمة "بيركليتوس" فإنها اسم وليست صفة، وتعليقًا على
هذه الترجمة، قال الأب متى المسكين: "ليست هذه الكلمة (أي
المعزي) ترجمة دقيقة للأصل اليوناني، ولكنها ترجمة جزافية
للكلمة الأصلية التي هي (الباركليت)، وكان يجب أن تترك كما
هي، لأن الباركليت هنا اسم وليس صفة"([9]).
وقال في
مقام آخر: "في الترجمة العربية لإنجيل يوحنا لم يذكر
المترجم اسم (الباركليت) بهذا اللفظ المعربة حروفه، وهذا
نقص معيب، وتصرف من المترجم، حيث ترجم معناها من اليونانية
إلى معناها بالعربية وجعلها اسم صفة (المعزي).
فاذا فحصنا
كلمة (الروح) نجدها تأتي في الإنجيل في اللغة اليونانية
الأصلية، لغويًا ومن جهة النحو، كاسم مجرد أي اسم معنوي
يفيد المعنى العام، ومحايد الجنس (لا مذّكر ولا مؤنث).
وأما اسم
الباركليت فيأتي كاسم علم شخص مذكر، لذلك يعتبر إنجيل
يوحنا هو الإنجيل الوحيد الذي أعطى للروح القدس - لغويا من
جهة النحو- صفته الشخصية، إذ نقله لغويًا من دائرة
المجردات كقوّة إلى ذات مشخصة"([10]).
ويدل على
أنها اسم علم مذكر أيضاً، ورودها في اليونانية منتهية بحرف
السين، واليونانية تزيد حرف السين في آخر أسماء الأعلام([11])،
وهذا كله كاشف عن أن الصيغة الأصلية للكلمة اليونانية هي "بيركليتوس"
والتي تعني اسم العلم "أحمد"، لا "باراكليتوس" التي تعني
"المحامي والشفيع" ونحوهما.
يضاف إلى ما
تقدم، أن كاتب الإنجيل قد فهم أن الكلمة اسم علم في
العبرية، ولذلك نقلها بلفظها إلى اليونانية، وأدخل عليها
حرف السين للدلالة على ذلك، فقد نقل الدكتور أحمد حجازي
السقا عن الأب متى المسكين قوله:
"إن كلمة
البارقليط تنطق بالعبرية هكذا (البيرقليط) وهذا النطق عينه
هو الذي اشتق منه نطق الكلمة باللغة العربية (البرقليط)
لأن اللغة العربية تميل إلى الأخذ من اللغة العبرية
القديمة، أكثر من اللغة اليونانية، ووردت بهذا المعنى في
كتابات الآباء الرسوليين وبالذات في رسالة برناباس"([12]).
وبهذا يتبين
أن اسم النبي الأعظم أحمد
(صلى الله عليه وآله)
قد ورد
صريحًا في الإنجيل، وهو المقصود بإقامة ملكوت السماوات،
وهذا تصديق قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي
اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ
قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}([13]).
والحمد لله
رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
([1])
إنجيل يوحنا: 14/15-16.
([2])
إنجيل يوحنا: 14/23-26.
([3])
إنجيل يوحنا: 15/26.
([4])
إنجيل يوحنا: 16/12-13.
([5])
مدخل إلى المحور الإسلامي المسيحي، الأستاذ
الحداد، ص392.
([6])
نقد التوراة، ص 270-271.
([7])
تفسير الكتاب المقدس، ج5، ص228.
([8])
صوفية المسيحية- الانجيل بحسب يوحنا, ص59.
([9])
شرح إنجيل القديس يوحنا، ج2 ص939.
([10])
المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا، ص247.
([11])
نقد التوراة، ص270.
([12])
نقد التوراة، ص269، عن الباركليت الروح القدس في
حياة الناس، ص12-13.
([13])
سورة الصف: الآية 6.
|