العدد الرابع / 2006م  /1427هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

مصدر الأحكام

السيد علي السيد حسين يوسف مكي*

الأحكام الشّرعيّة المجعولة من المشرّع الحكيم، تُؤخذ أصولُها (من) القرآن الكريم، (وممن) أَودع الله عندهم العلوم وهم النّبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) من بعده, فهما الحجّة في ذلك والأساس الأوّلي.

وقد أشار العلماء في المباحث الأصوليّة إلى أنّ الأدلّة على الأحكام أربعة:

القرآن. والسّنة. والإجماع. والعقل.

أما القرآن:

فحجّيته ثابتة ولا مجال للكلام فيها أبدًا، فهو الكتاب المُنزل على نبيّه المرسل (صلى الله عليه وآله). وهذا ثابت عقلاً: بإعجازه وأسلوبه البليغ الّذي لم يتمكّن أحد من تحدّيه ببلاغته وفصاحته وعلومه. ونقلاً: بالرّوايات المتواترة والعديدة الّتي تدلّ على استيعابه واشتماله على جميع ما يحتاج إليه الإنسان ووجوب الرّجوع إليه في كلّ الأحوال.

وأمّا السّنة:

وهي قول المعصوم أو فعله أو تقريره، فحجيتها أمرٌ أكيدٌ، ولا مجال للنّقاش فيها، إذ لولاها لما قام للإسلام أساسٌ وكيانٌ ودورٌ، ولما كان هناك مجالٌ للعمل بالقرآن وتطبيق أحكامه، فإنّ القرآن واردٌ لبيان أصل التّشريع والقواعد العامّة والأسس العّامة للتّشريع، ولم تَرد فيه تفاصيل الأحكام وبياناتها، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}([1]).

ومجمل القول في حجيّة السّنة: أنّه بدون السنة لا يقومُ للإسلام ولا للمسلمين أمرٌ أبدًا, وما عليه المسلمون من وضوح أمر دينهم في احتوائه لجميع أمور الحياة والشّؤون والاعتبارات ما هو إلا بالسّنة الّتي هي تبيان وشرح للقرآن وأحكامه, وتفصيلٌ وبيانٌ للشّريعة الإلهيّة في كلّ أحكامها ومقرّراتها, وهي أيضًَا وحيٌ من الله سبحانه للنّبي (صلى الله عليه وآله)، والأئمّة (عليهم السلام) أخذوا من النّبي (صلى الله عليه وآله) كما نصّ على ذلك الكثير من الرّوايات والّتي منها حديث الثّقلين وغيره من الأحاديث الّتي توجب الّرجوع إلى النّبي وأهل البيت (عليهم السلام) تأكيدًا لدور السّنة وأهميّتها في التّشريع الإلهي.

أمّا الإجماع:

والّذي هو اتّفاق العلماء على أمرٍ لم يرد فيه قرآن ولا سنّة، فهو إنّما يكون حجّة على الحكم ودليلاّ عليه في صورة ما إذا كان مشتملاّ على الإقرار من المعصوم (عليه السلام)، إمّا لوجود المعصوم بين العلماء المُجمعين, أو لاستكشاف موافقته ورضاه على الحكم.

هذا المعنى يجعل له الحجيّة والدليليّة لحصول القطع بمدلوله، فإن تمّ فذاك، وإلا لم يكن حجّة، هذا إذا كان الإجماع محصّلاً، وأما إذا كان إجماعًا منقولاً، فالإجماع المنقول ليس بحجّة.

وقد يكون الإجماع مدركيًا، بأن يكون الاتّفاق من العلماء والإجماع منهم على المستند للحكم من آية أو رواية، وهذا ليس بحجّة لأنّ المتّبع فيه هو المدرك والدليل لا الاتّفاق.

دليل العقل:

من المتّفق عليه بين العلماء والفقهاء: أنّ العقل من الأدلّة على الأحكام, وقد يتصوّر البعض أنّ معنى هذا أن العقل له صلاحيّة التّشريع والحكم.

والواقع أنّ العقل، وهو أعلى الكمالات في الإنسان، وهو بالغ الأهمّية في مجالات العلوم والعقلانيّات وإدراكها، ولكّنه مع ذلك ليس له صلاحيّة التّشريع في قبال الله سبحانه وتعالى، ولم يدّع أحد من المسلمين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم ذلك أبدًا، لأنّ التّشريعَ وإصدارَ الأحكام والتّكاليفَ وإقرارَها، هو لله سبحانه بشكل مطلق, ووظيفة العقل هي الإدراك وتعقّل وتفهّم أنّ هذا الشّيء حسنٌ أو قبيح, وإدراك الملازمة بين حكم العقل المستقلّ وحكم الشّرع، بمعنى أنّ كلّ ما حكم به العقل يحكم به الشّرع، وغير ذلك من المسائل.

إذا حكم الشّرع بشيء، فهل العقل يحكم بما حكم به الشّرع؟

وهذه المسألة من المهمّات أيضًا، والذي يقال فيها: إنّه لا مجال هنا للقطع بالملازمة، وإن قطعنا بأن ما يحكم به العقل ويدرك ملاكه لا بد أن يحكم به الشرع.

لأن العقل وإن أدرك إجمالاً وحكم مستقلاً بأن الله تعالى لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء جزافًا وعبثًا، وأنه تعالى إنما يحكم تبعًا لمصلحة أو مفسدة غالبةٍ تقتضي تعلق إرادته بالشيء فيأمر به، أو تقتضي تعلق الكراهة به فينهى عنه كما عليه العدلية. إلا أن العقل مع ذلك عاجز عن إدراك تمام ما بَنَى عليه المشرّع أحكامه من المصالح والمفاسد لقصوره عن ذلك تفصيلاً، لأجل عجز العقل وقصوره عن إدراك جميع الجهات المحسّنة والمقبّحة في الأفعال، ولذلك قد يكون ما يدركه العقل من المصالح والمفاسد في بعض الموارد غير ما هو المصلحة الحقيقيّة والمفسدة الحقيقيّة للحكم عند الشارع.

وبالجملة: ما لم ينكشف للعقل وجه الحكم تفصيلاً، أي ما لم يدرك جميع جهات الحسن والقبح، لا يحكم، بل يتوقّف.

ومن هنا يظهر أنه ليس كل ما حكم به الشرع يلزم أن يحكم به العقل ويدرك جهته تفصيلاً، بل غاية ما يدركه هو أن حكم الشارع تابع لمصلحة أو مفسدة في الفعل على نحو الإجمال، ولذلك ترى توقّف العقل أحيانًا عند بعض الأحكام واستغرابه منها، وذلك لقصوره عن إدراك المصلحة والمفسدة فيها، كما في الدّيّات حيث ورد عن أبان بن تغلب أنه قال:

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في رجل قطع إصبعًا من أصابع المرأة، كم فيها؟

قال: عشرة من الإبل. قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون. قلت: قطع ثلاثًا؟ قال: ثلاثون. قلت: قطع أربعًا ؟ قال: عشرون.

قلت: سبحان الله يقطع ثلاثًا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعًا فيكون عليه عشرون؟! إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ونقول: الذي جاء به شيطان!

فقال: مهلا يا أبان، هذا حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف([2])، يا أبان إنك أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين)([3]).

فلا يمكن إثبات أنّ العقل يحكم دائمًا ويحيط بملاك ما حكم به الشّرع, نعم يحكم بوجوب الطّاعة للمولى والانقياد له وضرورة دفع الضرر المحتمل أو الضرر المتيقن ونحو ذلك.

وما ذكرتُ هذا الموضوع إلا للتّأكيد، ولبيان دور العقل في الأحكام، وأنّه ليس له حقّ التّشريع، ولرفع الالتباس لدى الكثير من النّاس الّذين يحاولون أن يستعملوا أو يُدخلوا عقولهم في موضوع الأحكام الشّرعيّة أو مناقشتها، والله العالم.

الخلاصة:

وقد اتضح مما ذكرنا: أن المرجع للأحكام الشرعية والتكاليف الإلهية أمران:

(الأول) : القرآن. (والثاني) : السنّة، والسنّة كما أوضحنا، هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره.

فالحاصل: أنه لا بد من الرجوع إلى القرآن الكريم، والى أهل البيت (عليهم السلام).

وفي زمن غيبة الإمام (عجّل الله فرجه الشريف)، لا بدّ من الرجوع إلى العلماء الأعلام الذين يتميّزون بالورع والتقوى والعدالة، والاجتهاد، والمسلّم اجتهادهم، لأنه ليس كل من ادّعى الاجتهاد مُسّلم له اجتهاده، وليس كل من وقف خطيبًا وأجاد الكلام كان عالمًا ومرجعًا وصار من أهل الفتوى، فإن هذا الأمر من أخطر الأمور وأهمّ الأمور التي يجب أن لا يتساهل فيها أهل العلم والدين، ولذلك يوجد هناك جماعات من أهل الخبرة يميّزون الشخص إن كان مجتهدًا أم لا، ولا ينبغي أن يُسَوَّقَ هذا المعنى حسب الأهواء والمصالح أو الدّعاية أو بذل الأموال أو غير ذلك، كما هو شائع في زماننا هذا.

حال الناس في زمن الغيبة:

بالنسبة للأحكام الشرعية وتحصيلها والعمل بها ينقسم المكلّفون بالأحكام إلى ثلاثة أقسام:

1- مجتهد

2- محتاط

3- مقلّد

المجتهد: وهو الذي يملك القدرة العلمية والمَلَكَة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية التي هي القرآن والسنّة والإجماع والعقل، والقواعد الأخرى.

فمن توفّرت لديه القدرة على تحصيل الأحكام بنفسه كذلك يسمّى مجتهدًا، وتحقّ له الفتوى والصلاحيات الأخرى المنوطة به.

المحتاط: وهو الذي لا يملك القدرة العلمية على استنباط الأحكام، أو يتمكّن من ذلك ولكنه لا يريد تحمّل هذه المسؤولية، فيعمل بأقوال العلماء المجتهدين الذين يتردد التقليد بينهم، بأن يطّلع في المسألة الواحدة على أقوالهم فيها ثم يأخذ بأحوطها، أو يعمل بما اتفقوا عليه، أو يكرّر العمل إذا اختلفوا، حتى يطمئن ببراءة الذمّة، وهذا النوع من الاحتياط مرجعه إلى الاحتياط في التقليد، وهو سهل بالقياس إلى نوع آخر من الاحتياط، وهو الذي يعمد المكلف فيه إلى الجمع في مقام العمل بين جميع محتملات النصوص والأقوال بل والقواعد، فإن هذه الطريقة شاقّة لا تتيسر إلا للأوحديين من أهل العلم والفضل، المُجْهَدِين بالتتبع والاستقراء.

المقلّد: هو الذي لا يتمكّن من تحصيل الأحكام من طريق الاجتهاد، فيرجع إلى العالم المجتهد، الأعلم من العلماء، ويعمل بفتواه في كل المسائل الشرعية لعدم قدرته على استنباط الأحكام بنفسه.

وهذا التقسيم إنما لأجل تحصيل براءة الذّمة من التكليف الشرعي، والوصول إليه بنحو تتحقّق معه الطاعة المطلقة لله سبحانه وامتثال أوامره.

والهدف الأساسي لكل هذا هو انتظام الأمور وحفظ المصالح للعباد وإبعادهم عن الشرّ والفساد في مختلف أمورهم وتكاليفهم -العبادات والمعاملات-، وما يتعلق بالأموال والأفعال والأخلاق والاجتماعيات والاقتصاد والسياسة، مما فيه خير الناس وصلاحهم.

يتبع = 

ـــــــــــــــــــــــــــ

* آية الله السيد علي مكي رئيس الطائفة الإسلامية الشيعية في سوريا .

[1] - سورة النّحل من الآية44.

[2] - ومعنى قوله (عليه السلام): (تعاقل الرجل)، أن كل جناية كانت فيها دية شرعًا، فإن كانت الدية أقل من ثلث دية الرجل، فالمرأة تعاقله وتساويه فيها، وإن كانت الدية تعادل ثلث دية الرجل أو تزيد عليها، كان للمرأة نصفها، ومن هنا كانت دية المرأة الكاملة نصف دية الرجل.

[3] - وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت: 29/352، ب44 من أبواب ديات الأعضاء ح1.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع    أرشيف المجلة     الرئيسية