باب الاجتهاد
مفتوح
الاجتهاد:
معناه بَذْلُ الجُهد واستعمال القدرة والامكانات على
استخراج الأحكام واستنباطها من أدلّتها التّفصيليّة، الّتي
هي القرآن والسنّة والإجماع والعقل -كما أسلفنا-.
وتكون هذه
القدرة نتيجة العلم والمعرفة والإحاطة بهذه الأدلّة بشكل
صحيح وواسع, ويجب أن يكون هذا الاجتهاد في إطار (القرآن)
و(السنّة),
أي ما ينطبق عليه القرآن والسنّة، لأن كلّ شيء مما يتعلّق
بشؤون النّاس والحياة على اختلافها موجود في القرآن
والسّنة:
قال تعالى:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ
شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}([1]).
وفي الحديث
الشّريف: (إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ
شيء، حتّى -واللهِ- ما ترك شيئًا يحتاج إليه العباد، حتّى
لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا أنزل في القرآن, إلا وقد
أنزله الله فيه)([2]).
وورد في
الحديث أيضًا: (إن القرآن حيّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجرى
الليل والنّهار، وكما يجري الشّمس والقمر، ويجري على آخرنا
كما يجري على أوّلنا)([3]).
وأمّا
السّنة:
فالرّوايات كثيرة جدًا في تأكيد دورها والأخذ بها, وأنّ
كلّ شيء موجود في الكتاب والسّنة, وضرورة الرّجوع إلى
النّبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)
والأخذ منهم، لأنّهم المُستَخْلَفون للقيام بحفظ الدّين
ونشره وتأكيده في قلوب ونفوس النّاس.
والسّنة في
واقعها وحيٌ من الله سبحانه، وشارحة للقرآن الكريم، وبيان
تفصيليّ لما جاء فيه من أحكام وتكاليف وبيانات, لأن القرآن
وظيفته بيان العمومات من الأحكام، وتفصيلها يكون في
السّنة, وكما ورد في الحديث الشّريف: (آيات القرآن خزائنٌ،
فكلّما فتحت خزينة ينبغي أن تنظر فيها)([4]).
والمقصود بالنّظر هنا: التّأمّل والتّدبر بما تعطيه من
معانٍ وأحكام وبيانات واسعة.
ولذلك لا
بدّ من الرّجوع إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) في أمور
القرآن وشؤونه ومعانيه وشرحه وتفسيره, لأنّ الله سبحانه
أودع علوم القرآن وكافّة ما فيه عنده (صلى الله عليه وآله)
, والنّبي (صلى الله عليه وآله) أودع هذه العلوم عند
الأئمّة الطّاهرين (عليهم السلام)، فهم المرجع في ذلك،
وهذا ما ينصّ عليه حديث الثّقلين، فضلاً عن الأحاديث
الأخرى الّتي تؤكّد أنّ ما لديهم من علوم أخذوها من النّبي
(صلى الله عليه وآله).
فإدراك
الواقع القرآني وكونه تبيانًا لكلّ شيء ليس بمقدور كلّ أحد
من النّاس، مهما بلغ من العلم والكمال العقلي والفكري، ولا
هو تحت إرادته، وإنّما يُطْلَب منّا بذل الجهد لذلك،
مستعينين بما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام)، لأنّ
القرآن كلام الله سبحانه ومراداته، وفيه أسراره، جعل بعضها
في متناول النّاس حتّى لا يكونوا بعيدين عن القرآن، وجعل
البعض الآخر لا يُدرك بسهولة ولا بدّ فيه من الرّجوع
للنّبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) ومَن
عنده علم الكتاب، صيانةً له من العبث والاجتهادات الخاطئة,
وللأسرار والعلوم الّتي يشتمل عليها، ممّا لا تجد مجالاً
لفهمها إلا عن طريق أهل البيت (عليهم السلام)، لأنّهم
الأعرف بها والأبواب إليها بتعليم من النّبي (صلى الله
عليه وآله).
وهكذا يبقى
القرآن الوسيلة لارتباط النّاس مع الله والنّبي (صلى الله
عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)، ويبقى أهل البيت
(عليهم السلام) الوسيلة لحفظ الدّين وحفظ القرآن سالمًا من
التّحريف والتّزييف والزّيادة والنّقصان والاجتهادات
الباطلة الّتي تكثر في هذا الزّمان, من السنّة والشيعة
بدون مجاملة ولا محاباة، ورفع الخلاف بين المسلمين في
مختلف أمورهم عبر القرآن، ولا يُرفع الخلاف إلا بالرّجوع
لمن يعرف أسرارَه وعلومه وأسرارَ التّشريع وأصوله، ولا أحد
يعرف كلّ هذا سوى أهل البيت (عليهم السلام) الّذين أخذوا
وتعلّموا على يد النّبي (صلى الله عليه وآله).
ناحية مهمّة
ومن
الضّروري ونحن نؤكّد على دور السّنة في التّشريع الإسلامي
وفي تفصيل وبيان الآيات الكريمة الّتي أشارت إلى ذلك، أن
نذكر ناحية مهمّة:
وهي أنّ
السّنة الشّريفة الّتي هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره..
هي وحيٌ من الله سبحانه وتعالى كما أشرنا، وليست اجتهادًا
من النّبي (صلى الله عليه وآله).
فما ورد على
لسان النّبي (صلى الله عليه وآله) من تّفصيلاتٍ لآيات
القرآن الكريم وأحكامه والكيفيّات الّتي تمارس بها
العبادات وغيرها، كلّه بوحي من الله، قال الله تعالى:
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى}([5]).
مثلاً:
أَمَرَ المولى سبحانه بالصّلاة فقال تعالى:{أَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}([6])،
ولم يحدّد في القرآن كيفيّة الصّلاة بشكل مفصّل، وكذلك لم
يحدّد أمور الزّكاة والمقدار الّذي يجب دفعه.
ولكنّ بيان
الكيفيّة للصّلاة جاء على لسان النّبي (صلى الله عليه
وآله) , من اعتبار النية والقُربة فيها, ومن اعتبار أنّ
التّكبير ابتداءُ الصّلاة, ثمّ القراءة، ثمّ الرّكوع، ثمّ
السّجود، والتّشهّد، وغيرها ممّا يعتبر من الأجزاء
والشّرائط، كلّه كان من النّبي (صلى الله عليه وآله)،
والنّبي أوضحه وبيّنه بأمر من الله سبحانه, وكذلك ما يعتبر
قَبل الصلاة من الوضوء ومن السّتر حال الصّلاة،
والاستقبال، واعتبار دخول الوقت للصّلاة، كلّه بيانه
وتفصيله كان من الله سبحانه بوحي للنّبي (صلى الله عليه
وآله).
وهكذا الحال
في الزّكاة والصّيام والحج وغيرها من الفرائض والواجبات،
لأن العبادات -كما ورد- أمور توقيفيّة، أي يتوقّف بياناتها
وتفصيلاتها وتحديدها على الشارع المقدّس، وليس للعباد دخل
فيها.
ومن هنا
نؤكّد أنه ليس كل ما يراه الإنسان عبادةً يكون عبادةً،
فالله يريد أن يُعبد كما يشاء هو لا كما يشاء العبد.
ومن هنا نجد
أن العبادات المقرّرة في الشريعة تنسجم تمامًا مع الواقع
الإيماني والرّوحي عند الإنسان، وتلبّي تطلّعاته وحاجاته
الرّوحية والأخلاقية، فالعبادة كما تكون بالتأمل والتفكّر،
تكون أيضًا بالفعل والعمل وبالقول أيضًا، وكما يُشرف العقل
والتفكّر والتأمل على تهذيب النفس والباطن وتصحيح السلوك،
كذلك الفعل والعمل والقول يعمل أيضًا على تنزيه القلب
والنفس والرّوح مما يجعل العابد متمحّضًا في ذاته لله
سبحانه وتعالى.
فالعبادة
الصحيحة التي ترتقي بالإنسان إلى مراتب الإخلاص والكمال،
هي ما كانت على النّهج المأمور به من الله سبحانه وتعالى،
سواء في حالات التأمل والتفكّر، أو في القول والعمل
وغيرها، وما أراده الله سبحانه أوضحه على لسان نبيّه
الكريم (صلى الله عليه وآله)، والنبي (صلى الله عليه وآله)
علّمه وأعطاه للأئمة الأطهار الذين هم الامتداد الطبيعي
للنبي (صلى الله عليه وآله)، ولم يحجب عنهم شيئًا من
العلوم التي فيها الخير والصلاح للعباد في مختلف شؤونهم،
وأمورهم، بما يتعلّق بالدنيا والآخرة.
عود على بدء
فدور
المجتهد في أحكام الشريعة إنما يكون ويصح إذا كان في إطار
القرآن والسنّة، ويكون في استخراج واستنباط الأحكام منهما
بتطبيق القواعد العامّة الكليّة المعتبرة على القضايا
الجزئية الفرعية الخارجية التي يحتاج إليها الناس، والتي
هي مورد ابتلائهم واهتمامهم، وكذلك الحال فيما يتعلق
بالمعاملات وما يُشترط فيها، يكون بإمضاء من النبي (صلى
الله عليه وآله) واعتبارًا منه لها، ويُصيِّرُ هذا
الإمضاءُ والاعتبارُ أحكامَ المعاملات كلها أحكامًا
واقعيّة ومرادة للمشرّع الحكيم، هذا مضافًا إلى النصوص
الصريحة والواضحة في المعاملات، فهي أيضًا من السّنة وبوحي
من الله سبحانه.
أهمية الاجتهاد
لا يقتصر
دور المجتهد على استنباط الأحكام الشرعية الإلهية من
القرآن والسنّة وغيرها من الأدلة المعتمدة في الاستنباط،
فإن ذلك وإن كان مهمّا جدًا وضروريًا في الحياة الإنسانية،
إلا أنه -مضافًا لذلك- له دور كبير في تحقيق الأهداف
الإنسانية والإصلاح والتنظيم والحفظ للشؤون العامة
والخاصة، التي هي الأساس في تطوّر الحياة وتناميها، لأن
الإسلام لمّا كان هو الدين الخاتم ولا دينَ بعده أبدًا إلى
يوم القيامة، فلا بدّ أن يُلبّي متطلبات وتطلعات البشرية
والإنسانية في جميع مراحل وجودها، ولا بدّ أن يؤمّن لها
جميع الاحتياجات التي فيها الخير والصلاح والنظام، ووضع كل
جديد يتجدّد في حياة الإنسان في إطار التشريع الإسلامي،
كما هو الحال والشأن في الأمور المتجدّدة في عصرنا الحاضر،
والتي لم تكن موجودة فيما سبق، وكذلك استيعاب ما هو محتمل
الوجود في المستقبل، باعتباره الدين الخالد والخاتم إلى
يوم القيامة.
من هنا نفهم
ونُدرك أهمية الاجتهاد وضرورته في الحياة الإنسانية،
خصوصًا بعد زمان الغيبة، غيبة الإمام المهدي (عجّل الله
فرجه الشريف)، كل ذلك لتقويم أمور الحياة وإبعادها عن حالة
الفوضى والاضطراب، ولاستمرار بقاء الدين فاعلاً في حياة
الناس كأساس لا يُستغنى عنه في حال من الأحوال.
فالإنسان مع
الاجتهاد، دائمًا وأبدًا في حالِ تطوّر وفي حالةِ انتظام،
وفي وضع لا يشعر معه بالبُعد عن الواقع الإنساني والحياة
الفاضلة الكريمة الملائمة له، وهو في إطار التشريع
والإسلام، أي منطلقاته كلها من الواقع الإيماني والشرعي
الذي يريده ويقرّه الإسلام.
ولكن:
أولاً:
-وكما
أسلفنا-
يجب أن يكون
هذا الاجتهاد في إطار القرآن والسنّة، ولا يكون غير ذلك،
وإلا كان اجتهادًا في مقابل النصّ، وتشريعًا محضًا في قبال
الله سبحانه، لأنه كما أسلفنا ما من شيء إلا وله أساس في
القرآن والسنّة، وإلا كان بدعةً، (وكل بدعة ضلالة، وكل
ضلالة في النار)([7]).
وثانيًا:
لا يمكن
اعتمادُ قواعدَ وأُسسٍ ومصادرَ التشريع إلا ما كان في إطار
الكتاب والسنة أيضًا ويؤدي إلى الحكم الموافق لهما، وإلا
فيُضرب به عرض الجدار.
وشيء
ثالث:
وهو مهم جدًا،
أن يكون المجتهد في وضعٍ أخلاقيٍّ وروحيٍّ خاصّ، من حيث
الإيمان والاعتدال الأخلاقي والسلوكي والورع والتقوى،
والخشية من الله سبحانه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}([8])،
وأن يكون في أعلى مراتب العدالة، هذا المعنى ضروري لأنه
يجعل المجتهد في وضعٍ لا يُغلب للأهواء والاجتهادات
الشخصية والباطلة.
ثم إن الحكم
الذي يستخرجه ويستنبطه المجتهد من القرآن والسنّة، يسمّى
بـ"الحكم
الظاهري"،
لأنه إنما يؤخذ به لقيام الدليل على اعتباره، وعدم إمكانية
الوصول إلى الحكم الواقعي الأولي.
وأما إذا
كنّا قادرين على الحكم الإلهي الواقعي كما لو كان الحكم
ضروريًا أو بديهيًا، فلا حاجة للاجتهاد أبدًا، بل لا يصحّ
الاجتهاد في قبال الواقع المعلوم، وإنما يكون الاجتهاد مع
الجهل بالواقع وعدم الوصول إليه لأجل معرفة الوظيفة
العملية الظاهرية التي تستوجب براءة الذمة أمام الله
سبحانه.
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- سورة النحل من الآية 89.
[2]
- أصول الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران ط1: ج1
ص 59، باب الرد إلى الكتاب والسنّة ح1.
[3]
- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: ج35 ص404، باب
20 أن القرآن حيٌّ لا يموت ح21.
[4]
- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 89/216، باب
آداب القراءة ح22.
[5]
- سورة النّجم الآية 3- 4.
[6]
- سورة البقرة من الآية43، ووردت أيضًا في غيرها
من السّور.
[7]
- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 10/355 ب20 ما
كتبه الرضا (عليه السلام) للمأمون ح1، وورد بلفظ
قريب منه في روايات أخرى، راجع مثلاً ج2 ص263 ب32
البدعة والسنة.. ح21.
[8]
- سورة فاطر من الآية 28.
|