العدد الخامس/ 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = ابن الإنسان في الإنجيل

ابن الإنسان والملكوت:

إلا أن السيد المسيح (عليه السلام) قد قَرَن بين مصطلح ابن الإنسان وبين الحديث عن إقامة الملكوت السماوي, وحكومة آخر الزمان, في أكثر الاستعمالات.

وهو استخدام مأخوذ مما ورد في سفر دانيال, فإنه يقول بعدما رأى الرؤيا: [وكان لما رأيت أنا دانيال الرؤيا وطلبت المعنى إذا شبه إنسان واقف قبالتي, وسمعت صوت إنسان بيت أولاي فنادى وقال يا جبرائيل فهم هذا الرجل الرؤيا, فجاء إلى حيث وقفت ولما جاء خفت وخررت على وجهي. فقال لي افهم يا ابن آدم. إن الرؤيا لوقت المنتهى]([1]).

ولا إشكال في أن إقامة الملكوت في آخر الزمان ستكون بيد الإنسان نفسه, بمعنى أنه مُلك أرضي وحكومة تقيم العدل على أساس قوانين السماء قبل يوم القيامة, كما يدل عليه ذيل كلام دانيال المذكور [أن الرؤيا لوقت المنتهى], وهو ما صرّح به السيد المسيح (عليه السلام) حيث ربط حكومة ابن الإنسان بتوالي الحروب والمجاعات, وتتالي الممالك في الحكم, وحصول الكوارث الطبيعية من زلازل وغيرها, بالإضافة إلى المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية, التي سيعاني الناس منها, الأمر الذي يُهيئ ظروف ادّعاء الكثيرين أنهم المسيح الموعود كذبا, ثم يأتي المنتهى([2]).

إن مما يدل دلالة صريحة على أن ابن الإنسان الذي سيقيم ملكوت السماوات في آخر الزمان, وأنه يستمر إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها, ما ورد في سفر دانيال نفسه, وتقدّم كلامه الذي يقول: [كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان أتى إلى القديم الأيام فقرّبوه قدّامه, فأعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبّد له كل الشعوب والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض]([3]).

إلا أن النقطة المركزية في المقام هي بيان ما إن كان المراد بابن الإنسان الذي سيقيم الملكوت في آخر الزمان هل هو السيد المسيح (عليه السلام) نفسه, أم هو شخص آخر غيره, وهو مهدي آل محمد (عجل الله فرجه الشريف).

ولا بدّ أولاً من الإشارة إلى الارتباك الوارد في الأناجيل نفسها في هذا التطبيق، وهو الذي انعكس على الفهم المسيحي لهذه المسألة فيما بعد بشكل عام، وان كان التلاعب في النصوص قد حصل في العصور الأولى للتدوين بحسب الظاهر.

يقول الإنجيل أنه قد تجلّى لثلاثة من تلاميذه وهو يتحادث مع موسى وإيليا، [وفيما هم نازلون من الجبل أوصاهم يسوع قائلاً لا تُعلموا أحدًا بما رأيتم حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات وسأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة أن ايليا ينبغي أن يأتي أولاً، فأجاب يسوع أن ايليا يأتي أولاً ويرد كل شيء، ولكني أقول لكم أن ايليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا كذلك ابن الإنسان أيضًا سوف يتألم منهم، حينئذ فهم تلاميذه انه قال لهم عن يوحنا المعمدان]([4]).

ونلاحظ في هذا النص عدة أمور تتنافى مع الفهم المسيحي لفكرة ابن الإنسان وحكومة الملكوت، إذ لم يرد التعبير عن يوحنا المعمدان بأنه ايليا في أي مورد من الموارد، لا في العهد القديم ولا في العهد الجديد سوى في هذا المورد.

وهو ظاهر في انه لم يرد ذكر يوحنا المعمدان في كلام السيد المسيح (عليه السلام)، كما لم يتحدث التلاميذ عن ذلك، وإنما الذي فهم ذلك هو كاتب الإنجيل، وحمل هذا الفهم للتلاميذ، من دون أن يبرز أية قرينة تساعد على هذا الفهم, بل إن القرينة قائمة على خلافه, لأن الحديث ورد في سياق رؤيتهم محادثته مع موسى وإيليا نفسه, فلا معنى لقوله [حينئذ فهم التلاميذ الخ..], خصوصًا وأن بطرس كان من تلاميذ يوحنا المعمدان قبل مدة وجيزة, كما أنهم كانوا جميعًا معاصرين له كذلك.

ومن الواضح أن كاتب الإنجيل لم يستطع التفريق بين مقولة مجيء ايليا قبل قيام حكومة الملكوت على يد ابن الإنسان، وبين المسلَّمة التي انطلق منها وهي أن ابن الإنسان ليس سوى المسيح (عليه السلام) نفسه، فاختلط الأمر في ذهنه، إذ كيف يأتي ابن الإنسان (وهو المسيح بحسب مسلَّمته) ولما يأتي ايليا قبله، فعمد إلى التأويل المذكور، مع أن الواقع يقتضي إعادة النظر في تطبيق ابن الإنسان على السيد المسيح (عليه السلام)، وبذلك يستقيم سياق الكلام.

ولو فرضنا إرادة يوحنا المعمدان من قوله[قد جاء ولم يعرفوه] إلا أنه لا يمكن انطباقه على الفقرة الأولى [إن ايليا يأتي أولاً ويرد كل شيء]، ذلك أن يوحنا المعمدان لم يرد كل شيء كما هو معلوم، بل إن عدم معرفتهم له وعملهم كل ما أرادوه به يدل على ذلك.

وعلى كل حال, فالكلام هنا مقتبس من النبوءة الواردة في سفر ملاخي، والتي تقول: [ها أنا ذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف، فيردّ قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن]([5]).

ولا إشكال في أن المراد بيوم الرب فيها هو يوم إقامة الملكوت، ولذلك وصفه بأنه يوم عظيم ومخوف.

ولا يمكن أن يراد به التمهيد للسيد المسيح (عليه السلام) كما يفترضه المسيحيون، لأن المفروض أن إيليا المقصود سيرد قلوب الأبناء على آبائهم وبالعكس، وإلا فسوف يضرب الله الأرض بلعن، بينما نجد أن السيد المسيح (عليه السلام) - وحسبما يفترض الإنجيليون - قد جاء ليفرق [الإنسان ضد أبيه، والأب ضد ابنه، والأم على البنت، والبنت على أمها، والحماة ضد كنّتها، والكنّة ضد حماتها]([6]).

نصوص ابن الإنسان:

إننا نجد في هذا المجال، حشدا من النصوص التي تتعرض لابن الإنسان ولزمانه، لا بدّ من ذكر بعضها مما يضيء على المسألة، وبيان ما إذا كان يصحّ انطباقها على السيد المسيح (عليه السلام) أم لا؟

وينبغي أولاً ملاحظة انه (عليه السلام) لم يصرح بأن المراد من ابن الإنسان الذي سيقيم حكومة الملكوت نفسه الشريفة, بل لم يشر إلى ذلك في أي مورد من الموارد، فقد كان يذكره بصيغة الغائب كلما تعرّض له، حتى في الموارد التي يبدو من سياقها للوهلة الأولى أنه هو المراد بالكلام فعلاً، وهذا يدل دلالة أكيدة على أن ابن الإنسان المقصود هو غيره كما تقدم ذكره.

وما دام الأمر كذلك، فان حمل ابن الإنسان عليه (عليه السلام) مخالف للنصوص الإنجيلية نفسها، ولا بد أن يكون تبرّعًا من المسيحيين، وهو تبرّع لا قرينة تساعده، ولا دليل يدل عليه، وبالتالي فلا يمكن الالتزام به، ولا المصير إليه.

ومهما يكن من أمر, فإن من النصوص الإنجيلية التي تتحدث عن حكومة آخر الزمان, وعن ابن الإنسان الذي سيقيمها, والتي سنعرضها هي التالية:

1- [فإن ابن الإنسان سوف يجيء في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله, الحقّ أقول لكم إن من القيام هنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته]([7]).

ومن الواضح أنها لا تقبل الانطباق على السيد المسيح (عليه السلام) , لأن ابن الإنسان هذا سوف يجازي كل واحد حسب عمله, وأما السيد المسيح فلم يجازِ أحدًا, إذ هو لم يقم حدّ الرجم على المرأة الزانية عندما جيء بها لذلك([8]).

وجاء إليه رجل يشتكي على أخيه في قسمة ميراثهما, فردّه وقال له: [يا إنسان من أقامني عليكما قاضيًا أو مقسّمًا]([9]).

وحاول بعض اليهود أن يخطفوه وينصّبوه ملكًا عليهم، وعلم بذلك تركهم وانصرف إلى الجبل وحده([10]).

وغنيٌ عن البيان أن مهمّته ووظيفته كانت منحصرة بالوعظ والبشارة باقتراب ملكوت السماوات, كما حفلت به كافة فصول الأناجيل.

ومما لا إشكال فيه أنه ليس المراد بالمجازاة هذه حساب يوم الدينونة، بقرينة ما ورد في ذيلها [أن من القيام هنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته].

كما أنه لا يصح إرادة مجازاته لهم بعد قيامته من الأموات، كما ربما يتوهم، لأن المفروض أن مهمته ووظيفته قد انتهت قبل حادثة الصلب، حين أعلن في نهاية خطبته على الجبل قائلا: [أنا مجّدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته]([11]).

هذا بالإضافة إلى أنه لم يدّع أحد من المسيحيين أو من غيرهم أن السيد المسيح (عليه السلام) قد تصدّى لهذه المهمة بعد حادثة الصلب.

2- أنه لا بد أن يسبق مجيء ابن الإنسان الموعود كثير من الحروب والدمار والفتن، فإذا جاء رآه جميع الناس, [وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوّة ومجد كثير، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء السماوات إلى أقصائها]([12]).

وشيء من ذلك لم يحصل مع السيد المسيح (عليه السلام)، وكل ما حصل أنهم ذهبوا إلى القبر ولم يجدوه فيه، فادّعي أنه قام من الأموات، دون أن يتفق الانجيليون على نص معين يمكن الركون إليه حول من رآه ومن كلَّمه حينئذ، وقد عالجنا هذه المسألة بالتفصيل في كتاب [صلب المسيح في الانجيل] فيمكن مراجعته هناك.

3- [الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كلّه، السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول، وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السماوات إلا أبي وحده، وكما كانت أيام نوح كذلك يكون أيضا مجيء ابن الإنسان، لأنه كما كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع. كذلك يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان]([13]).

1-       وأضاف كاتب انجيل لوقا قول المسيح: [كذلك أيضا كما كان في أيام لوط كانوا يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون ويغرسون ويبنون، ولكن اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم أمطر نارًا وكبريتًا من السماء فأهلك الجميع، هكذا يكون في اليوم الذي يظهر فيه ابن الإنسان، في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل ليأخذها. والذي في الحقل كذلك لا يرجع إلى الوراء]([14]).

يتبع =

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - سفر دانيال: 8/15-17.

[2] - إنجيل متى: 24/3-4.

[3] - سفر دانيال: 7/13-14.

[4] - إنجيل متى: 17/9-13؛ وانجيل مرقس: 9/9-13.

[5] - سفر ملاخي: 4/5-6.

[6] - إنجيل متى: 10/34-35؛ انجيل لوقا: 12/49-53.

[7] - إنجيل متى: 16/27-28.

[8] - إنجيل يوحنا: 8/2-11.

[9] - إنجيل لوقا: 12-13.

[10] - إنجيل يوحنا: 6/15.

[11] - إنجيل يوحنا: 17/4.

[12] - إنجيل متى: 24/30-31؛ وإنجيل مرقس: 13/26-27؛ وانجيل لوقا: 21/27.

[13] - إنجيل متى: 24/34-39؛ وإنجيل لوقا: 17/24-32.

[14] - إنجيل لوقا: 17/28-31.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس    أرشيف المجلة     الرئيسية