ودلالته
صريحة على أنه في ذلك اليوم سيقع العذاب والبلاء على من
أنكروا ابن الإنسان الموعود، وسينتشر النعيم والرخاء على
أتباعه وأنصاره والمؤمنين به.
وأما يوم
السيد المسيح (عليه السلام) فلم يتحدّث التاريخ عن وقوع
شيء من ذلك معه كما هو معلوم. هذا مع أنه كان يعلم ساعة
ارتفاعه ورحيله عن الناس, كما تدل عليه الأناجيل الأربعة,
فهو يخاطب تلاميذه قائلا: [هوذا الساعة قد اقتربت وابن
الإنسان يسلم إلى الخطاة, قوموا ننطلق. هوذا الذي يسلمني
قد اقترب]([1]).
وقال لاثنين
من تلاميذه, وهما اندراوس وفيلبس: [قد أتت الساعة ليتمجد
ابن الإنسان]([2]).
وكذلك أنهى
خطبته على الجبل, متوجهًا إلى السماء, وقال: [أيها الأب قد
أتت الساعة]([3]).
ولازم كل
ذلك أن يكون عارفًا بوقت مجيئه في الملكوت, لو كان هو
المراد به, ذلك أنه كان قد أخبرهم بأنه سيقوم بعد ثلاثة
أيام, كما كان يونان النبي في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث
ليال بحسب الأناجيل.
بينما مجيء
ابن الإنسان الموعود, فلا أحد يعلم به حتى السيد المسيح
(عليه السلام) والملائكة القدّيسون, حسب نص النبوءة, ولا
يعلمها إلا الله تعالى.
هذا كله مع
أن يوم صلب المسيح (عليه السلام) !! كان شديدا على المسيح
نفسه, وليس على خصومه والذين رفضوه, ولذلك أمضى الليل كله
ساهرًا ومتوسلاً إلى الله تعالى ليُجيز عنه كأس الموت]([4]).
ولهذا كان
بحاجة إلى من يشدّ أزره ويقوّيه ويعينه في محنته, فقد [ظهر
له ملاك من السماء يقوّيه, وإذ كان في جهادٍ يصلي بأشد
لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض]([5]).
وأين حاله
من ذلك الذي سيأتي في مجد وملكوت وقوة كثيرة, فيكون يومًا
شديدًا على الكافرين, لا على المؤمنين الذين ينعمون بعدله
ورحمته, حتى قال السيد المسيح (عليه السلام) لتلاميذه فيه:
[ستأتي أيام تشتهون أن تروا يومًا واحدًا من أيام ابن
الإنسان ولا ترون]([6]).
وهذا يشكّل
قرينة إضافية على عدم كون السيد المسيح (عليه السلام) هو
المقصود بابن الإنسان الموعود, لأن المفروض, وبحسب
الأناجيل, أنهم سيكونون معه في قضاء يوم الدينونة, حيث
يقول لهم: [وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا, لتأكلوا
وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون
أسباط إسرائيل الإثني عشر]([7]).
ولا يخفى أن
الالتزام بإرادة السيد المسيح (عليه السلام) من ابن
الإنسان الموعود, ينافي كونهم معه في قضاء يوم الدينونة,
إذ كيف يصح أن يكونوا معه, وهم يتمنون أن يروا يومًا من
أيامه دون أن يتسنى لهم ذلك, اللهم إلا إذا التزمنا بعدم
صحة أحد الكلامين, وهو ما لا يرتضيه المسيحيون قطعًا. فلا
مخرج للمسيحيين إذن إلا بالتزام إرادة غيره من ابن
الإنسان, إن افترضوا صحّة النصين معًا, وصدورهما عنه (عليه
السلام) فعلاً.
4- [ماذا
ينتفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه, أو ماذا يعطي
الإنسان فداء عن نفسه, لأن من استحى بي وبكلامي في هذا
الجيل الفاسق الخاطئ فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء
بمجد أبيه مع الملائكة القديسين]([8]).
5- [فسأله
رئيس الكهنة أيضا وقال له أأنت المسيح ابن المبارك, فقال
له يسوع أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين
القوّة وآتيًا في سحاب السماء]([9]).
وقد اتفق
الإنجيليون الثلاثة على ذكر هذه الحادثة, وبصور متقاربة,
يجمعها أن الحديث كان معه مباشرة, وأنه كان يتحدث عن نفسه
بصيغة المتكلم, ثم انتقل مباشرة ليتحدث عن ابن الإنسان
الآتي بصيغة الغائب, ومقتضى الحال أنه لو كان يريد نفسه أن
يكمل بصيغة المتكلم أيضًا، رفعًا للالتباس وسوء الفهم,
خصوصًا وأنه لم يذكر في أي مورد من الموارد أنه هو المقصود
صراحة كما سبقت الإشارة إليه.
هذا
بالإضافة إلى ما تقدّم من أنه لم يحصل من الناحية الواقعية
أن رأوا شيئًا يصدّق هذه النبوءة في شخصه الكريم, مما يدل
دلالة أكيدة على أنه كان يريد ابن إنسان آخر, وهو الموعود
بإقامة ملكوت آخر الزمان.
ويؤكّد هذه
الحقيقة أن اليهود كانوا يعلمون علم اليقين أن مقيم ملكوت
السماوات سيكون في آخر أيام الدنيا, فإنه حينما كان يتحدث
عن ارتفاعه عن هذا العالم [فأجابه الجمع نحن سمعنا من
الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد. فكيف تقول أنت إنه
ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان. من هو هذا ابن الإنسان]([10]).
ولا بد من
الإشارة هنا إلى أن جوابهم المذكور غير متناسق مع سياق
الكلام الوارد على لسانه (عليه السلام) , ذلك أنه لم يتعرض
في هذه الفقرة لعنوان ابن الإنسان, بل كان يتحدث عن نفسه
بصيغة المتكلم [وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب الجميع إلي],
وأما جوابهم فكان عن شخص آخر, لا بد أن يبقى معهم إلى
الأبد, مما يعني أن كاتب الإنجيل قد تصرّف في النص, أو أن
النسّاخ قد حذفوا منه شيئًا, لينسجم مع اعتقادهم ورؤيتهم,
فاختلّ سياق الكلام بهذا التصرف, خصوصًا وأن الجمع الذين
كان يحاورهم كانوا يظنّون أنه هو المسيح الموعود, والمسيح
هنا بمعنى الملك, فأراد السيد المسيح أن يصحّح لهم هذا
الاعتقاد, ويردّهم إلى الصواب, ولذلك كان استهجانهم
واستغرابهم من كلامه معهم, فسألوا [من هو هذا ابن
الإنسان].
وهكذا يظهر
أن إرادة المسيح (عليه السلام) من ابن الإنسان الموعود
بإقامة الملكوت في الإنجيل تؤدّّّّّي إلى اختلال كلام
الإنجيل كله, مما يستوجب طرحه, أو إعمال التكلّف الشديد في
محاولة رفع التهافت فيه دون جدوى. ولا يستقيم سياق
الأناجيل في هذه المسألة إلا إذا حملنا عنوان ابن الإنسان
على شخص آخر غيره في آخر الزمان, وهو مهدي آل محمد الحجة
بن الحسن المنتظر المهدي عجل الله فرجه الشريف.
انتهى المقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
-
إنجيل متى: 26/45-46؛ ومرقس: 14/41-42.
[2]
-
إنجيل يوحنا: 12/23.
[4]
-
إنجيل متى:26/37-44؛ ومرقس:14/33-39.
[5]
-
إنجيل لوقا: 22/42-44.
[7]
-
إنجيل لوقا:22/29-30؛ ومتى: 19/28.
[8]
-
إنجيل مرقس: 8/36-38؛ ولوقا: 9/25-26.
[9]
-
إنجيل مرقس: 14/61-62؛ متى: 26/63-64؛ ولوقا:
22/67-69.
[10]
-
إنجيل يوحنا:12/34.
|